قراءة لرواية يوم قُتل الزعيم لنجيب محفوظ



"الرئيس الراحل في هزيمته أعظم من هذا في نصره" 


" مقهى ريش منقذ من ضجر الوحدة. أجلس وأطلب قهوة وأرهف السمع. هنا معبد تقدم به القرابيين إلى الراحل الذي أصبح رمزا للآمال الضائعة آمال الفقراء والمعزولين. هنا أيضا تنقض شلالات السخط على بطل النصر والسلام. النصر يتكشف عن لعبة والسلام عن تسليم " 


كيف لرواية لا تتجاوز التسعين صفحة أن تحمل في طياتها كل هذه المشاعر الجياشة والأسئلة المحيرة والإجابات القاسية حول الطبيعة الإنسانية وتناقضاتها حول علاقة الحب بالمال، والمرأة والرجل في عالم الإرادة المسلوبة؟ كيف لرواية أو نفولا قصيرة أن تقدم تاريخا مختصرا لنهاية عصر عربي حالم جميل وبداية عصر النكبات والكوارث والفقر والرشاوي والفساد والتكفير والإرهاب، لحظة من أكثر لحظات التاريخ العربي المعاصر غرابةً وانقلابًا عصر "الانفتاح" و"السلام"؟ الإجابة ـ أيها الأصدقاء ـ سهلة جدا وهي أنه لابد أن يكون كاتبها الروائي الكبير الراحل نجيب محفوظ. 


في رائعته القصيرة جدا يقدم نجيب محفوظ حكاية عهد السادات أو عصر الانفتاح والسلام أو "الاستسلام" ـ كما سماه نجيب محفوظ على لسان أحد الشخوص ـ وذلك من خلال قصة حب مؤلمة بين زميلين في العمل: علوان ورنده، لا يكتمل لها  السبيل للزاوج بسبب تعسر أحوال المصريين في عصر الانفتاح حيث لا يتمكن العروسين وآباءهم اللذان يعملان عملين في اليوم من تأمين حق شقة وفرشها إذ لا تكفي مرتباتهم مجتمعة مع معاش تقاعد الجد محتشمي الذي يعيش معهم من تغطية حاجاتهم الأساسية في عصر الغلاء الفاحش، الأمر الذي يجعل خطبتهم تستمر إلى أجل مفتوح. 


تحت ضغط والدي رنده وتحريض مسؤولهم في العمل أنور يضطر علوان آسفا أن ينهي الخطوبة فيتوه الخطابين ويصطدم حبهما بعالم الفساد والمال بين رنده التي تتزوج مديرها أنور الذي يرغب في تحويلها إلى عاهرة يجذب بها شلل الفساد والعقود التي ظهرت واستشرت في عصر الانفتاح حتى يتسنى له الدخول في عالمهم. وعلوان الذي تسدرجه أخت أنور "جولستان" العجوز ليصبح زوجها وخادمها المطيع فيبيع نفسه من أجل مالها. غير أن الرواية تفاجئ قراءها فتأخذهم إلى منحنى آخر غير متوقع تصل إلى ذروتها وقمة الصدام فيها خلال أحداث يوم ٦ أكتوبر الذي يشهد مقتل الرئيس المصري أنور السادات. وكمعظم روايات نجيب محفوظ ورغم الألم والخيبة الذي يصل فيه اللأبطال في الغالب إلى حد الهاوية يترك نجيب محفوظ لشخصياته وقارئه في آن معا بصيص بعيد لأمل في النهاية.


يهاجم نجيب محفوظ في روايته السادات هجوما قاسيا ويصفه بأبشع الصفات وهو أمر لم أعهد له سابقا في روايته التي انتقد العهد الناصري "اللص والكلاب" و"ثرثرة فوق النيل" و "السمان الخريف" حيث وصف السادات هنا " بالطاغية أحيانا والدكتاتور في أحيان أخرى كما يستهزء به قائلا عنه " الزي زي هتلر والفعل شارلي شبلن". في مقابل يذكر نجيب محفوظ فترة الثورة عام ١٩١٩م والحكم الناصري بكثير من الحزن والألم والنستولجا على الرغم أنه من معلوم أن نجيب محفوط ذو مواقف سياسية وتصريحات لطالما اعتبرت قريبة من نظام السادات. لا يكتفي نجيب محفوظ  بالهجوم على السادات فقط بل يحاكم عصر بأكمله، فيشن هجوما على عصر الانفتاح والفساد والمقاولات قائلا مثلا: 


" ولكن ما الحل مع ما يقال عن الفساد واللصوص ؟ … أين الصواب؟ لِم أشك في كل شيء ؟ منذ تهاوى مثلي الأعلى في ٥ يونيه. كيف يحدث الناس سبيلا إلى الثراء الفاحش؟ وفي زمن لا يصدق؟ ألا يمكن أن يحدث ذلك بلا انحراف؟ "  


" أما هذا المنتصر المعجباني فقد شذ عن القاعدة، تحدانا بنصره، ألقى في قلوبنا أحاسيس وعواطف جديدة لم نتهيأ لها، وطالبنا بتغير النغمة التى ألفناها جيلا بعد جيل، فاستحق منا اللعنة والحقد، ثم غالى بالنصر لنفسه تاركا لنا بانفتاحه الفقر والفساد"       


على مستوى السرد فقد كتبت الرواية من وجهة نظر ثلاث من شخصياتها الرئيسية حيث يتناوبوا السرد خلال الرواية وهم: علوان ورنده وجد علوان محتشمي زايد. يقدم نجيب محفوظ من خلال كل شخصية وجهة نظر مختلفة وصوت مختلف ولغة وأسلوب مختلف من خيبة الشباب والنقمة على الواقع والواقعية المرة في حديث علوان إلى العاطفة الدفاقة والأليمة في حديث رنده. أما فصول العجوز فقد حملت صوت عقل وحكمة وتجربة الشيوخ، وكتبت بلغة صوفية رائعة قدم نجيب محفوط فيها كما أعتقد وجهة نظرهِ الخاصة للتاريخ المصري المعاصر منذ ثورة عام ١٩١٩.


في الختام ، كعادته قدم نجيب محفوظ رواية رائعة بكل ما فالكلمة من معنى شخصيات مركبة وواقعية ومختلفة في آن، وحكاية بسيطة ولكن برمزية عالية لا تكفي عشرات القراءات من أمثال هذه في الإحاطة بكل جمالياتها. وكما أسلفت الرواية قصيرة جدا ولا تحتاج إلا إلى جلسة قصيرة وهي بداية جميلة وسريعة لمن يحب أن يطلع على شيء من كتابات نجيب محفوظ.  


تقييمي الشخصي: ٩.٥ /١٠


تقع الرواية ٨٧ صفحة. بين يدي طبعة الرواية الأولى ١٩٨٥ عن مكتبة مصر. 


القادم رواية عندما تشيخ الذئاب جمال ناجي  


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة للمجموعة القصصية أكابر لميخائيل نعيمة

قراءة لرواية خان الخليلي لنجيب محفوظ

قراءة لكتاب الهويات القاتلة لأمين معلوف