قراءة لرواية خان الخليلي لنجيب محفوظ




هذا هو المقال أو القراءة ـ أعتقد أن هذه هي المفردة الأصلح لوصف ما أكتب - رقم مائة التي أضعها في مدونتي وفي هذا الفضاء الأزرق منذ بدأت كتابة المراجعات حول الكتب التي أقرأها قبل ثلاث سنوات تقريبا. وطوال الأسابيع الماضية ومع اقترابي من المراجعة رقم مائة احترت كثيرا في الكاتب والكتاب وحتى الموضوع الذي سأختاره ليشكل خاتمة هذا المشروع الشخصي البسيط. 


 ولم تطل بي الحيرة كثيرا، خصوصا بالنسبة للموضوع والكاتب فأي من الأصدقاء أو المتابعين القلائل كان بسهولة سيخمن الموضوع والكاتب على الأقل وقد كانا بطبيعة الحال الأدب ونجيب محفوظ. أما عن الكتاب فقد قررت العودة إلى أول رواية معاصرة لنجيب محفوظ "خان الخليلي" والتي نشرت لأول مرة في عام ١٩٤٥م ولم يخيب نجيب محفوظ الشاب كالعادة ظني، فكنت على موعد مع قصة إنسانية مؤلمة من زمن الحرب والخوف والحب. 


كباقي روائع الأربعينات والخمسينات التي قدمها نجيب محفوظ في بداية مشواره الكبير من رواية القاهرة الجديدة إلى بداية ونهاية و من ثم الثلاثية، تتميز هذه الرواية بواقعيتها الشديدة وقدرتها على الجمع بين القضايا الاجتماعية والسياسية لمجتمع يرزح تحت الاستعمار ويعيش حالة من التحولات الكبرى اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، وبين القضايا الإنسانية الوجودية والفردية حول الأمل واليأس والحب والكراهية والغرور والعزلة والغيرة. و كمعظم رواياته يمرر نجيب محفوظ رسائله الإنسانية والسياسية والاجتماعية ضمن دراما إنسانية مشوقة ومن خلال شخصيات غاية في التركيب والتعقيد لا تكرهها إلا بقدر ما تتفهم دوافعها وتتعاطف معها. 


تدور أحداث الرواية في عام ١٩٤١ وتبدأ مع بداية الحملة الألمانية في أفريقيا بقيادة روميل حين اقتربت الجيوش النازية من مصر واشتد القصف الألماني على القاهرة والمدن المصرية الرئيسية. وعلى إثر اشتداد القصف على أحد أحياء القاهرة الحديثة، يقرر بطل الرواية الأفندي أحمد عاكف الموظف الصغير في وزارة الأشغال وعائلته الانتقال إلى منطقة الحسين وحي الخليلي التاريخي بالذات لاعتقادهم ـ المدعوم بالدعاية النازية - أن منطقة الحسين محمية بحفيد الرسول واحترام هتلر للمشاعر الإسلامية المقدسة. 


بطل الرواية الأفندي أحمد عاكف رجل في بداية الكهولة غاية في النرجسية والاعتداد بالنفس يعيش حالة إنكار شديدة للذات بعد توقفه عن الدراسة في سن مبكرة - بسبب فصل والده من العمل - والالتحاق بالعمل ليعيل والديه ويربي أخيه الصغير رشدي. تدفع حالة الإنكار الشديدة التي يعيشها أحمد عاكف بالإضافة إلى الأوهام التي تتكون لديه على أثر قراءات متنوعة في العلوم والتراث والأدب من كونه ذي ثقافة وفكر عالي وأنه لو توفر على شيء من الحظ السعيد لكان من كبار المحامين أو المثقفين أو أصحاب المناصب الكبرى في البلد إلى حالة من اليأس الشديد والعزلة عن الناس فلا حبيب ولا زوجة ولا أصدقاء. 


مع انتقاله إلى خان الخليلي يتعرف أحمد عاكف ويندمج لأول مرة مع مجموعة من سكان الحي البسطاء الذين يشعرونه بقيمته العلمية والثقافية كما يقع في تجربة حب هي الأولى منذ عشرين عاما مع نوال جارته الشابة ذات العيون الرائعة. وعلى الرغم من استمرار القصف على القاهرة بما فيها أحياء الحسين إلا أن حياة بطلنا المغرور تتجه على الجانب الشخصي إلى نهاية تبدو أنها مبشرة بالآمال غير أن عودة الأخ الصغير رشدي - والذي يختلف عن أخيه الكبير في كل شيء تقريبا في النجاح وحب الحياة والجرأة والجمال والثقة- من أسيوط إلى القاهرة تقلب حياة أحمد رأسا على عقب. 


تتحرك بعدها الأحداث بالشخصيات الرئيسية الثلاث أحمد ورشدي ونوال في مسارات غير متوقعة تعيش معها الشخصيات تغيرات إنسانية كبرى ولكنها مفهومة ومنطقية ضمن إطار الأحداث، لتنتهي بمأساة كبرى تتوافق مع نهاية الخطر النازي على مصر في نهاية سنة ١٩٤٢م.  على أنه وكمعظم رواياته التي قرأتها سابقا لا يترك نجيب محفوظ  قراءة وشخصياته في الختام دون أمل في الحياة. فعلى رغم من المأساة والانحدار الاجتماعي والشخصي التي تعيشه الشخصيات الرئيسية في نهاية الرواية يخرج نجيب محفوظ من ضمن المأساة تلك أملا جديدا لحياة مختلفة وواعدة ربما لأحمد عاكف الذي يخرج من مأساته الشخصية بفهم مختلف للحياة وبرؤية للتغيير ومستقبل أفضل. 


وكأن نجيب محفوظ في ذلك يحاكي بشخصية أحمد عاكف المجتمع والدولة المصرية التي كانت تعيش ذروة مأساة الاستعمار في أثناء الحرب العالمية الثانية حين وجدت الدولة والمجتمع المصري نفسها ضحية صراع الأقوياء وعاش الكثير من المصريين تحت القصف ولكن على وهم أمل مزيف للتغير يأتي من النازية التي تقصفهم، إلا أنه يتمنى انها تستوعب الدرس في النهاية وهو أن البحث عن التغيير والمستقبل الأفضل يجب أن ينبع من الداخل قبل أي شيء. 


هذه القراءة هي الختام لرحلة طويلة وجميلة بصحبة الكتاب امتدت لثلاث سنوات تقريبا، عشت خلالها على الجانب الشخصي الكثير من التحولات سواء في الحياة العملية أو الإنسانية، وكانت شاهدة على كثير من لحظات الفرح والدموع والنجاح والخيبة.  فقد شهدت على الجانب العملي انتقالي مثلا للعمل في واحد من أكبر وأعقد مشاريع النفط والغاز في تاريخ شركة تنمية نفط عمان التي أعمل بها. أما على الجانب الشخصي فقد شهدت انتقالي من حياة العزوبية إلى الزواج ثم شهدت واحدا من أصعب لحظات حياتي وهي مرض أبي المفاجئ في ربيع عام ٢٠١٨ ورحلة علاج امتدت ثمانية أشهر بين مسقط و دلهي  ثم كان ميلاد قلبي الصغير في صيف ٢٠١٩ الذي أضاف إلى حياتي الكثير من المعاني.      


خلال كل تلك اللحظات، كان الكتاب شريكي وصاحبي الوفي الذي لم يخذلني خلال تلك الأحداث فقد كان الصديق الذي ألوذ به بعد يوم طويل وصعب في العمل،  كما كان الرفيق المؤنس من الوحشة  في ممرات المستشفيات ولحظات الانتظار الطويلة المؤلمة في الوطية والهند، فشكرا لكل أولئك الكتاب الذين وضعوا أرواحهم وقلوبهم وجهدهم وضمائرهم من أجلنا وشكرا لكل تلك العناوين الرائعة التي خففت من وطأة الكثير من اللحظات المؤلمة كما جعلت للكثير من اللحظات السعيدة معنى أجمل. 


لم أتمكن خلال الثلاث سنوات الماضية من تسجيل تعليقي ومراجعتي عن كل ما قرأت للظروف التي كتبتها وتوقفت في فترات متعددة متسائلا لمن أكتب؟ متسائلا أيضا عن المعنى والجدوى في ما أكتب من مراجعات؟ متسائلا هل حقا لي الحق وأنا القارئ البسيط المحدود الاطلاع في تقديم الرأي والانتقاد؟ والآن وأنا أنهي هذه المراجعة فإني أدرك أنني  كنت طوال الوقت أكتب لنفسي وذاكرتي القصيرة في المقام الأول وأضيف هنا أني ربما كنت أكتب لابنتي ماريا وأخواتها أيضا أما عن المعنى والجدوى فإن تخيلي ورغم معرفتي لقلة المتابعين أن ما كتبت ربما دفع و لو شخص واحد فقط إلى عالم القراءة أو ساهم في توجيه قارئ واحد إلى عنوان معين وكاتب جديد ربما لم يسمع به سابقا ثم ساهمت تلك القراءة في تغيير شيء فيه وفي عالمه يكفي ليبرر كل تلك السطور والتعليقات. 


ختاما علي بعد شكر الكتّاب والناشرين والأصدقاء الذي أدخلوني إلى هذا العالم البديع، أن أشكر من دفعني إلى الاستمرار في هذا المشروع الشخصي البسيط وأولهم زوجتي أم ماريا وكل الأصدقاء والقراء البسطاء مثلي في المجموعة المتميزة " أمة اقرأ تقرأ " وإلى كل من قال لي يوميا تعرفت من خلالك على ذلك الكتاب و دفعتني إلى القراءة لهذا الكاتب والى كل من اسعفه الوقت لقراءة ما كتبت ووضع اعجاب هنا وتعليق تشجيع هناك.                            


الرواية بطبعتها الجديدة نشرت عن دار الشروق ضمن مشروعهم لإعادة نشر أعمال نجيب محفوظ ،  الطبعة الأولى منشورة ١٩٤٥، والطبعة الأولى لدار الشروق منشورة ٢٠٠٦ ، بين يدي الطبعة العاشرة ٢٠١٨م. تقع الرواية في ٣١٠ صفحة. 


تقيمي الشخصي: ٩.٥ /١٠


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة للمجموعة القصصية أكابر لميخائيل نعيمة

قراءة لكتاب الهويات القاتلة لأمين معلوف