قراءة لمسرحية "السلطان الحائر" لتوفيق الحكيم
" بين السيف الذي يفرضك ولكنه يعرضك وبين القانون الذي يتحداك ولكنه يحميك! …"
يعد الكثير من النقاد العرب و الغربيين - وهم بكل تأكيد محقين في ذلك - مسرحية السلطان الحائر لرائد المسرح العربي توفيق الحكيم واحده من روائع وكلاسيكيات المسرح العربي الحديث ويرى الكثيرون أيضا أنها من أهم ما قدمه المسرحي والأديب الكبير من أعمال وهو أمر له أيضا شيء من الوجاهة وأنت كنت شخصيا اعتقد ان بنك القلق كانت أفضل.
نشرت مسرحية "السلطان الحائر" لأول مرة في عام ١٩٦٠م وهي لحظة تاريخية فارقة من لحظات التاريخ المصري الحديث حيث بدأ الكثير من المراقبين والمثقفين المصريين وخصوصا الليبراليين منهم - أصحاب رؤية مصر في محيطها الشرق أوسطي أو الأوروبي وليس القومي- في ذلك الوقت التململ والشك في ما رأوه انحراف عن المبادئ الثورية الأساسية التي أعلنتها الثورة في بدايتها خصوصا وأن تلك الفترة شهدت ذروة التفرد الناصري والعسكري بزمام الأمور في مصر وبداية قوة التوجه البوليسي في معالجة القضايا والصراعات السياسية في مقابل تعطيل كامل للدستور والتطويع والتلاعب الكامل بالنصوص القانونية لصالح الدولة والمتنفذين فيها.
انطلاقا من هذه فكرة أي الصراع بين الديمقراطية والانفرادية - حتى لو كانت عادلة - وبين عدالة السيف أو القوة و عدالة القانون والدستور يبني توفيق الحكيم حكايته الذكية التي تنتمي إلى الفنتازيا التاريخية والمسرح الساخر الذي طالما أبدع فيها توفيق الحكيم. تحكي مسرحية " السلطان الحائر" حكاية سلطان عادل من المماليك يواجهه في بداية عهده معضلة دستورية كبرى حين يعلم أن شعبه أخذ يضج بموضوع عدم أهليته لحكم مصر وذلك لأن قوم منهم قد زعموا أنه لم يعتق من سيده السابق - السلطان الراحل - قبل وفاته وبالتالي فإنه بحكم الشرع ما يزال عبد فاقد للأهلية ولا يحق للعبد أن يحكم شعبا من الأحرار.
يواجه السلطان حلين فقط لهذه المعضلة الدستورية الأول إعمال السيف في المتقولين والمرجفين والإعلان زورا لشعبه أنه اعتق وكان هذا رأي وزيره المتزلف أو أن يتبع القانون وفي هذه الحالة فإنه الآن ملك لبيت مال المسلمين ولا بد شرعا وقانونا من بيعه في مزاد علني بشرط أن من يشتريه يعتقه بعد ذلك وبذلك يعود لممارسة مهامه الشرعية وهو رأي قاضي القضاة الذي اشتهر في الناس عدله.
" أن لك الخيار يا مولاي السلطان … لك أن تجعله للعمل، ولك أن تجعله للزينة … إني معترف بما للسيف من قوة أكيدة، ومن فعل سريع وأثر حاسم، ولكن السيف يعطي الحق للأقوى، ومن يدري غدا من يكون الأقوى؟ … فقد يبرز من الأقوياء من ترجح كفته عليك! … أما القانون فهو يحمي حقوقك من كل عدوان؛ لأنه لا يعترف بالأقوى … إنه يعترف بالأحق ! والآن فما عليك يا مولاي سوى الاختيار: بين السيف الذي يفرضك ولكنه يعرضك وبين القانون الذي يتحداك ولكنه يحميك! …"
يقرر السلطان أخيرا و بعد مجموعة من الحوارات الذكية والساخرة والحادة أحيانا اتباع القانون وعرض نفسه للبيع في مزاد علني أمام شعبه. تتحرك المسرحية بعدها في اتجاهات مختلفة ومفاجئة تعيش شخصياتها الرئيسية السلطان والوزير وقاضي القضاة والغانية والنخاس والجلاد تحولات درامية ذكية وذات رمزية وإسقاطات عميقة على الواقع العربي.
" إن السلطان اختار أن يخضع للقانون كما يخضع له أضعف فرد في رعيته … إن هذا القول الرائع يستحق أن يبذل فيتحقيقه كل الجهد؟ … " - السلطان في حوار مع وزيره
تتميز المسرحية بحواراتها الذكية التي تضع أمام قارئها - في تلك الفترة وحتى في عالم اليوم - أسئلة مهمة وحتمية ومعاصرة عن العدالة والقانون والدستور بالإضافة إلى وضع تعصبنا وآرائنا المسبقة ـ our prejudice ـ عن الناس والشخصيات العامة محل تساؤل واستفهام، حيث أن الأشياء غالبا ما تكون في داخلها مختلفة عن ظاهرها ولا بد من أن نحرر أنفسنا وعقولنا من الأحكام المسبقة والرؤية الضيقة للآخرين خصوصا المختلفين عنا. تتميز الرواية أيضا بالإضافة إلى موضوعها وحواراتها ، بشخصيتها المركبة ومسارها الدرامي الحركي والمفاجئ ولكن المفهوم في الإطار العام والقوانين التي يضعها توفيق الحكيم لمسرحيته.
" إنه حقا لعجيب أن يعلن ظاهرك كل هذا الإعلان عما ليس في باطنك! … واجهة تعلن عن بضاعة لا توجد في الداخل" - السلطان مخاطبا الغانية
أخيرا، إذا كان يحق لي أنا القارئ البسيط انتقاد أو الاعتراض على توفيق الحكيم فإني أقول أن نهاية المسرحية لم تعجبني وجدتها مثالية ومتوقعة أكثر من اللازم وكانت بعض الشيء مخيبة للآمال ولكن ربما كان لها مغزى في تلك الفترة، هل أراد توفيق الحكيم مثلا أن يوجه رسالة إلى هرم السلطة في مصر عن إمكانية الاختيار والتغيير ربما من يدري؟ سؤال اتركه مفتوحا لغيري من القراء.
تقييمي الشخصي: ٩ /١٠
تقع المسرحية مع الملاحق في ١٩٩ صفحة. نشرت الرواية لأول مرة عام ١٩٦٠، بين يدي طبعة دار الشروق الخامسة ٢٠١٥م.
القادم رواية اعترافات كاتم صوت لمؤنس الرزاز.
تعليقات
إرسال تعليق