رواية لاعب الشطرنج لستيفان زفايغ



" كتب ستيفان زفايغ إلى صديقه هرمان كيتسن قبل انتحاره بخمسة أسابيع " ليس هناك شيء مهم أقوله عن نفسي. كتبت قصة قصيرة حسب أنموذجي المفضل البائس، وهي أطول من أن تنشر في صحيفة أو مجلة وأصغر من أن يضمها كتاب وأشد غموضا من أن يفهمها جمهور القراء العريض وأشد غرابة من موضوعها في حد ذاته"" - اقتباس من نبذة غلاف الكتاب.


قليلة هي الأعمال الأدبية التي يمكن أن تطلق عليها بكل ارتياح مسمى perfect ، إلا أن الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ قدم لنا في روايته القصيرة "لاعب الشطرنج" رائعة أدبية قل نظيرها حول الدكتاتورية والعنصرية والظلم والمأساة الإنسانية الكبرى التي عاشها العالم خلال الحرب العالمية الثانية، استحق بكل جدراه هذاالمسمى. اختصر فيها ستيفان تلك المأساة وما عاشه هو وبلده النمسا من استعمار واستغلال على يد النازية البغيضة وذلك من خلال قصة قصيرة نسبيا و بسيطة في ظاهرها إلا أنها عميقة جدا في رموزها ومعانيها حول لعبة شطرنج بين بطل شطرنج عالمي شهير ورجل غامض خلال رحلة بحرية بين نيويورك وبيونس ايرس. جعلني خلالها زفايغ أعيش خلال صفحاته القليلة مع شخصياته العجيبة والمركبة والعميقة تجربة نادرة لا تكرر اختلط فيها الألم والحزن مع الحماس والتشويق والإثارة. 


تبدأ رواية لاعب الشطرنج خلال اللحظات الأولى لانطلاق سفينة في رحلة بحرية من نيويورك إلى بيونيس ايرس، يلاحظ فيها راوي الحكاية وجود لاعب شطرنج شهير على متن السفينة يدعى " ميركو كزنتوفيك "، يستمع بعدها الراوي إلى الحكاية الغريبة لهذا اللاعب الشهير الذي نشأ يتيما منعزلا، بالكاد يعرف القراءة والكتابة إلا أن إدراكه بالمصادفة في عمر الخامسة عشر لقدرته اللامحدودة في هذه اللعبة جعلته يصبح في مصاف أهم لاعبيها. 


مستفزا لمعرفة المزيد عن هذه الشخصية المركبة والانعزالية يندفع راوي الحكاية في محاولات بائسة للتعرف والتواصل مع كزنتوفيك هذا المتعالي الغامض. تبوء كل محاولات الراوي للتقرب من اللاعب العالمي الغريب والمتعجرف في البداية بالفشل إلى أن يتوصل إلى إقناع أحد ركاب السفينة الأثرياء وهو رجل أعمال اسكتلندي يدعى كونر من إقناع اللاعب الشهير الذي يقبل لعب مباراة بينه وبينهم مجتمعين لتبدأ جولة بين اللاعب الشهير والهواة في اليوم التالي. يوهمك زفايغ في بداية روايته أن موضوعها المحوري هو علاقة الرواي بكزنتوفيك ومحاولة لتعرف عليه إلا أن الرواية تفاجئك في منتصفها فتأخذ قارئها لمنحنى آخر غير متوقع، ففي منتصف الجولة الثانية بين الهواة ـ بينهم الراوي والسيد كونر - يظهر رجل غريب من بين الجموع يساعد الهواة في اللحظة الاخيرة ويمكنهم من التعادل مع اللاعب العالمي. 


تتحول الرواية بعدها إلى سبر حكاية الرجل الغريب أو المستر "ب"، وحل اللغز الذي حير الجميع إذ كيف تمكن الرجل الغريب بسهولة من قلب اللعبة في وجهة كزتوفيك والخروج بالتعادل وهو الذي لم يلمس - حسب قوله - رقعة شطرنج منذ خمس وعشرين عاما. نتعرف بعدها على الباك ستوري لمستر ب وهو محامي من إحدى العائلات النبيلة، كانت عائلته مقربة من الملكين في النمسا، وكان مع عمه ممثلا لمجموعة من ممتلكاتهم في البلاد. يعتقل المستر ب بعد دخول النازيين مباشرة إلى النمسا ويودع منعزلا في غرفة لمدة سنة وعدة أشهر يصل فيها المستر ب إلى حافة الجنون بسبب العزلة إلا أنه يتمكن من الاحتفاظ بشيء من عقله من خلال كتيب يسرقه من أحد ضباط الاعتقال يتحدث عن لعبة شطرنج مع شرح مفصل لأشهر مائة وخمسين مباراة عالمية. 


من خلال قصة المستر "ب" يقدم لنا زفايغ في روايته لاعب الشطرنج والتي كتبت في سنة ١٩٤١ أي في أوج الانتصارات النازية في الحرب العالمية الثانية شهادة قاسية ومؤلمة حول النمسا بل وأوروبا بالكامل في ظل الحكم النازي المرعب، لا يكتفي زفايغ بالعام بل يضع قارئه بأسلوبه التصويري البديع في المعتقل النازي لنشارك غرفة الاعتقال مع السيد "ب" ونعيش معه لحظات العزلة الرهيبة. كنت أستعيد في تلك اللحظات وأنا أقرأ تلك السطور حكايات المعتقلين والمغيبين في سجون العالم العربي التي ما تزال ممتلئة بالكثير من السجناء السياسيين والبسطاء والمهمشين الذين زجوا فيها ظلما وبهتانا وربما كان بعضهم وأنا أكتب هذه السطور يندفع بسرعة أيضا إلى حافة الجنون تلك دون أن يكون له حتى كتاب صغير عن الشطرنج يؤنسه في وحدته. والمصادفة الغريبه أيضا أنني أكتب هذه السطور في اليوم الثاني من العزلة بسبب شبهة الإصابة بفايروس كوفيد-١٩بسبب الاختلاط في العمل. 


 تنقلب الرواية بعدها إلى مشهد المباراة المنتظرة بين المستر ب والبطل العالمي، يشعرك زفايغ بأسلوبه الرائع أنك تقف في غرفة المدخنين في السفينة مع راوي الحكاية ومستر كونور تشاهدون المباراة كباقي شعوب العالم التي تشهد صراعات الكبار دون أن يكون لها رأي أو دور أوتأثير. كنت مع شخصيات زفايغ أشاهد جنون الهوس يتناطح مع جنون العظمة العمياء، وكراوي الحكاية أرادت يدي أن تمسك بمستر ب لإنقاذه من الاندفاع بسرعة إلى حافة الجنون مرة أخرى وكدت أقف صارخا في الأوراق أمامي طالبا منه التوقف عن اللعب. 


كانت هذه تجربتي الأولى مع ستيفان زفايغ وهي بالتأكيد لن تكون الأخيرة، فقد قدم لي الزفايع إلى جانب موضوعه الذكي والعميق ومشاهده الاستثنائية التي تحبس الأنفاس في كثير من الأحيان، شخصيات عميقة من دون استثناء حتى الثانوية منها لكل منها طبيعته المختلفة، تاريخية الذي خلق حاضره وسيؤثر على مستقبله: راوي الحكاية، الاسكتلندي مستر كونر، البطل العالمي كزنتوفيك و مستر "ب". كانت هذه أيضا تجربتي الأولى مع ترجمات مسكيلياني وهي بصراحة ترجمة رائعة للأستاذة سحر ستالة و تدقيق ومراجعة شوقي العنيزي وعليه فإن هذه الدار ستكون هي خياري الأول منذ الآن للأدب العالمي المترجم. 


تقييمي الشخصي: ٩.٥ /١٠ 

تقع الرواية في ٨٩ صفحات. بين يدي طبعة الرواية الثانية ٢٠١٨ عن مسكيلياني للنشر والتوزيع/ مسعى للنشر والتوزيع. 

القادم رواية القناص لزهران القاسمي  


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة للمجموعة القصصية أكابر لميخائيل نعيمة

قراءة لرواية خان الخليلي لنجيب محفوظ

قراءة لكتاب الهويات القاتلة لأمين معلوف