قراءة لرواية اعترافات كاتم صوت للروائي الأردني مؤنس الرزاز
"تعلمت من الحياة - التي تتلمذت على يديها - أن المنطق والنظام ضدان للحياة، لأن الحياة ثورة دائمة ضد المنطق، وتمرد مباغت على الأنظمة التي يؤمن الناس أحيانا بخلودها … إذن فالحياة غير منطقية، والتناقض فيها فاقع كالفضيحة. الدليل على ذلك أني أشعر بالعجز والعقم والضعف والموت . ولكني قادر على التحكم بالآخرين والسيطرة على حياتهم، بل موتهم …" - من اعترافات يوسف كاتم صوت
عن مأساة المثقفين والمناضلين العرب في الدولة العربية الحديثة تتحدث رواية " اعترافات كاتم صوت "، عندما تحالفت النخبة العربية المثقفة التي أسست الأحزاب السياسية التقليدية في العالم العربي مع العسكر وطوعت أفكارها ونخبها وقواعدها لصالح انقلاباتهم ومن ثم سكتت بل واشتركت في قمعهم - أي العسكر - للقوى المخالفة لأفكارهم أو الداعية للديمقراطية والحرية أو أي شكل من أشكال من المشاركة السياسية. ثم امتد سكوتها أيضا بعد ذلك للقمع الذي طال حلفاءهم السابقين ورفاق النضال في الماضي، متناسين أن يد القمع تلك التي طالت رفاقهم ستصل إليهم في النهاية ومتناسين المثل الشهير "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".
لقد قدم لنا مؤنس الرزاز في رائعته الأدبية التي صنفت ضمن أفضل مائة رواية عربية في القرن العشرين باختصار حكاية حركة تمرد ومحمد البرادعي في مصر وأحمد بن بلا وجيل الثورة في الجزائر وميشيل عفلق وصلاح البيطار ونورالدين الأتاسي في سوريا وفؤاد الركابي ومنيف الرزاز ـ والد الروائي - في العراق وعبدالخالق محجوب في السودان بالإضافة إلى العشرات بل المئات من المنسيين والمغيبين الذين قضوا في سجون العسكر أو حالفهم الحظ فعاشوا في المنافي البعيدة مترحمين ومتحسرين على زمن الاستعمار والملكيات وقد كان هذا من وجهة نظري ذروة المأساة في تجربة الجمهوريات العربية الحديثة.
تتمحور الرواية حول مراد أو " الختيار " كما تسميه شخصيات الرواية وهو مناضل يساري حزبي تحمله الأقدار بعد تحالفه مع العسكر إلى سدة الحكم في بلد عربي - جمهوري لا يذكر الكاتب أبدا الاسم ـ غير أن خلاف بينه وبين الجنرال رئيس الدولة يؤدي به في النهاية محبوسا في بيته تحت الإقامة الجبرية.
تبدأ الرواية بعائلة مراد في منزلهم تحت الإقامة الجبرية نستمع خلال الجزء الأول للرواية - المعنون "مدارات الصدى" - إلى أصوات مراد "الختيار"، الزوجة وابنتهم الصغيرة المخنوقة والملازم المسؤول المشرف على الإقامة الجبرية من خلال أسلوب المونولوج الداخلي الطويل. يقدم فيها كل واحد منهم شهادته عن التاريخ العائلي والدولة والسلطة مع واقع الحياة في ظل دولة توليتارية التي لا يشعر فقط فيها مراد وعائلة بوطئة الحصار والاختناق بل حتى الملازم المسؤول عن اعتقال الختيار لا يستطيع حتى استراق لحظة عاطفية مع زوجته إذ يعيش دائما في ظل الخوف والخشية أن منزله مزروع بأجهزة التنصت والتسجيل لأنه لم يترك منزلا من منازل القيادات إلا وزرعها بتلك الكاميرات وهو مدرك تماما أن جهازه الأمني مراقب أيضا من جهاز أمني آخر وهكذا دواليك.
في الأجزاء الثلاث القادمة، تظهر شخصية يوسف كاتم صوت وأحمد ابن مراد الختيار، الذي خرج من البلد قبل عزل أبيه ووضعه تحت الإقامة الجبرية. بنفس الأسلوب يستلم يوسف السرد ليحكي عن بداية علاقته بالختيار في واحد من معتقلات النظام البائد، ثم انضمامه إلى الحراسة الشخصية للختيار بعد وصوله إلى هرم السلطة وعمله معه ككاتم صوت أو قاتل مأجور. بعد انقلاب الزمن على الختيار يخرج يوسف إلى لبنان ويلتقي بأحمد وتبدأ بينهما علاقة ملتبسة تنتهي بمقتل أحمد على يد كاتم الصوت الذي تستأجره مخابرات إحدى الدول العربية المعادية لنظام الجنرال والتي تسعى لتشويه سمعته من خلال نسب الجريمة لذلك النظام. نستمع في هذه الفصول إلى اعترافات يوسف كاتم صوت لعاهرة عربية استأجرها ليومين لتستمع لاعترافاته القاتلة دون أن يعلم أو ينتبه أنها صماء لا تحسن السماع أصلا. ولا تتمكن بسبب شاربه الكث من التقاط إلا القليل من تلك الاعترافات لتبقى اعترافاته معلقة في الهواء ليحرمه الروائي في النهاية حتى لحظة الخلاص تلك.
كما أسلفت تتعدد الأصوات التي يكتب بها مؤنس الرزاز فمرة نستمع لصوت الختيار ومرة لشهادة الزوجة والصغيرة وملازم الاعتقال وحتى يوسف كاتم صوت، وفي أحيان أخرى يستلم الراوي العليم دفة السرد وإن كان من وجهة نظر تلك الشخصيات ليقدم لنا صورة أكثر بانورامية خصوصا في بعض المشاهد الحساسة والمفصلية. الوحيد في الرواية الذي يحرم من الحديث بلسانه هو أحمد المقتول الذي نعرفه فقط عن طريق يوسف وعائلته ولعل الرزاز كان يعبر من خلاله عن يأس الشعوب العربية و خصوصا فئة الشباب من فشل جيل الاستقلال في صناعة دول قومية ديمقراطية وعادلة وقرارهم اعتزال الحياة السياسية في بلدانهم.
تتميز الرواية بشخصياتها الواقعية جدا والمركبة والعميقة والتي يمكن إسقاطها على الكثير من الشخصيات العامة والخاصة التي نعرفها في واقعنا المعاصر والتي لا يمكن النظر إليها من خلال ثنائيات الخير والشر والأبيض والأسود فقط فالكل بدون استثناء حتى الجنرال ومراد وكاتم صوت والملازم يقعون في منطقة رمادية لكل منها تصرفات المفهومة ضمن الإطار التي وضعتها فيها الظروف الاجتماعية والسياسة.
على الجانب الآخر لا تخلو الرواية ورغم روعتها وأهميتها الموضوعية من بعض الملاحظات الطفيفة، أولها أن أصوات الشخصيات تتشابه نوعا ما في اللغة والأسلوب رغم اختلاف الخلفيات والأعمار والمستويات الثقافية فالصغيرة البسيطة ويوسف كاتم صوت يتكلمون بنفس الفلسفة واللغة التي يكتب بها الختيار وهو دراميا في سياق الرواية غير مقبول. الأمر الثاني فخ العلاقات المفتعلة بين الشخصيات فأم يوسف كاتم صوت مثلا تحملها الأقدار لتعمل مع أخوال أحمد في عمان وتعيش مع الصغيرة بعد خروجها من الإقامة الجبرية في نهاية الرواية ، والعاهرة التي يستأجرها يوسف للاستماع إلى اعترافاته كانت على علاقة حميمة مع أحمد وكان على موعد معها في عمان في نهاية ذلك الأسبوع. أخيرا، هناك الجزء الأخير والمعنون بالملحق والذي يختتمه الكاتب بحوار مفتوح بين المؤلف وقرائه يحاول فيها الإجابة ولو سريعا عن الأسئلة المفتوحة والرموز التي وضعها في الرواية وهو أسلوب لعل كل من يقرأ لي يعلم أني أنفر منه. وكم أتمنى الآن أن ذلك الفصل لم يكون موجودا أصلا أو أنني لم أقرأه.
هذه ملاحظات طفيفة جدا وأرجو أن لا تفهم على أنها انتقاص من قيمة الرواية، فالرواية بحق من أجمل وأقسى ما كتب في أزمة الجمهوريات العربية الحديثة ولها من الأهمية اليوم بالقدر نفسه التي كانت عليه يوم نشرت عام ١٩٨٣م حيث نعيش الآن مرحلة انتقالية مهمة وفرصة ذهبية ضيعها جيلنا وستأتي بعدها أجيال قادمة تحاسبنا على ما قدمناه خلال هذه المرحلة المفصلية من التاريخ العربي المعاصر.في الحقيقة استغراب لماذا لا تحظى هذه الكتابات بالقدر نفسه من الاهتمام والشهرة في الأوساط العربية الثقافية بقدر نفسه التي تحظى به الكثير من الأعمال العالمية المترجمة رغم أن هذه الروايات العربية تلامس بشكل أكبر لواقعنا وقضايانا السياسية والاجتماعية المعاصرة.
" إذا سمحوا لي بالحديث عن القمع في الدولة التي سأظهر على شاشة تلفزيونها - بالإضافة إلى القمع في الدول الأخرى - فأنا جاهز. أما أن أتحول إلى بهلوان يلعب على حبال تناقضات الأنظمة .. فلا … " - أحمد رافضا عرضا من أحد الدول العربية للظهور والحديث عن القمع في بلاده.
تقييمي الشخصي: ٩.٥ /١٠
تقع الرواية في ٢٢٤ صفحة. بين يدي طبعة الرواية الثانية ١٩٩٣م عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
القادم نافذة على القصة القصيرة الفارسية الحديثة
تعليقات
إرسال تعليق