قراءة لرواية عصفورمن الشرق لتوفيق الحكيم
"- إن الزمن شيء لا تعرفونه أنتم معشر الشرقيين، ولا يعنيكم أمره! …
- لقد تحررنا منه! …
- آه أيها المشرقيون! أنتم بلهاء أم أنتم حكماء؟ … هذا ما يحير! … "
من خلال قصة حب خائبة بين شاب مصري مغترب وفتاة فرنسية مضطربة، يقدم لنا توفيق الحكيم في روايته الجميلة عصفور من الشرق قراءته الخاصة وفلسفته الشخصية حول الأزمات الوجودية التي هددت وما تزال تهدد الشرق والغرب معا في النصف الأول من القرن العشرين. الشرقي ـ محسن ـ الذي انقسمت شخصيته وطبيعته بين إرثه الروحي المتردد الذي يرى ويقيم الأشياء خارج إطارها المادي وبين محاولته المضنية للحاق بركب الحضارة والفن الغربي الذي لطالما أبهره بجماله وروعته، والغربية ـ سوزي ـ التي تمثل العالم الغربي الذي سحقت المادية روحه وحرمته من فهم المعنى الحقيقي للوجود الإنساني، الذي جند فيه كل علومه واختراعاته في الحروب الطاحنة واستعباد واستغلال الشعوب الأخرى.
نشرت الرواية - التي يقال أنها جزء من السيرة الذاتية لتوفيق الحكيم للفترة التي قضاها في باريس - في عام ١٩٣٨ وهو العام الذي شهد اندلاع الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي كانت فيها أوروبا تعيش قمة أزمتها الوجودية، فقد انقسمت أوروبا حينها بين الديموقراطيات الاستعمارية التي استعبدت الشعوب المشرقية وبين الدكتاتوريات العنصرية النازية والفاشية التي أقامت معسكرات الاعتقال وأحرقت الأقليات وقرعت طبول الحرب، والتي سخر فيها كل الانجازات العلمية التي طالما افتخر بها الغرب. ومن خلال هذا السياق التاريخي يمكن فهم وتفهم المعالجة السطحية والنظرة السلبية التي حملها توفيق الحكيم في روايته ضد المادية الغربية وإنجازاتها في المجالات الفكرية والعلمية والفنية والتي تأثرت بشدة بالسياق التاريخي والموجات الشيوعية والقومية الفاشية في أوروبا.
تدور أحداث الرواية كما أسلفت حول قصة حب بين شاب مصري - محسن - متردد وحالم يتغذى من كتبه وحبه للموسيقى والشعر والفن ـ يرمز للشرق الروحي ـ وبين قاطعة تذاكر فرنسية - سوزي- لا تنجذب للفتى الشرقي إلا حينما تضعف علاقتها بحبيبها الفرنسي حيث تجعل من علاقتها مع محسن مجرد أداة لإغاضة ذلك الحبيب ـ وترمز هي للغربية المادية السطحية. تتحرك الرواية في مسارين أساسيين أو علاقتين رئيسيتين: الأولى كما أسلفت هي قصة الحب المباشرة بين محسن وسوزي والثانية هي مجموعة من الحوارات الرائعة أو المناظرات بين محسن وعامل روسي مهاجر يدعى إيفانوفتش يلتقي معه في إحدى البارات وتربط بينهما صداقة قوية تبدأ بسؤال محسن حول كتاب "رأس المال" كان يقرأه الروسي في الحانه عند لقائهما الأول.
من خلال شخصية ايفانوفتيش وحوارته مع محسن يقدم توفيق الحكيم وبصورة مباشرة رؤيته وفلسفته حول أزمات الغرب المادي والشرق الروحي والطريق الصحيح للخلاص الإنساني من الصراعات التي يعيشها في القرن العشرين وذلك من خلال التغلب على الثنائيات والمتضادات للشرق/الغرب والذهاب إلى الإمتزاج الذي لا يفقد أحدهما خصوصيته ويكسب مع ذلك كل منهما شيء الآخر؛ الأول يكسب الضمير والسمو الروحي والآخر يصل إلى ركب الحضارة والإنجازات العلمية والتقنية التي صنعت السعادة والراحة المادية ورفاه الشعوب.
على المستوى الفني، لا يحتاج الكاتب الكبير توفيق الحكيم شهادة قارئ بسيط مثلي، ومع ذلك وللذي يجهل الأسلوب الرائع الكبير أو لم يقرأه له بعد، فإن لكتابات توفيق الحكيم أسلوبها الفاتن ولغتها التصويرية الشاعرية ففي لحظة من هذه الرواية مثلا يصف توفيق الحكيم معزوفات بتهوفن الخامسةـ والتاسعة بلغة وصفية سينمائية أخذتني معها إلى عوالم رائعة وأخذت استمع مع بطل الرواية إلى تلك المعزوفات الجميلة وأشاهد حركة عصا الكوندكتر وضربات الموسقيين على آلاتهم. كما تزخر الرواية بالكثير من الحوارات السريعة الذكية والتي تميزت بالأسلوب الساخر أحيانا والفلسفي والعميق والنقدي للمجتمع والدين والحضارة في أحيان أخرى.
علي الاعتراف أنه وعلى مستوى شخصي، فإن الرواية أثرت بي وبعثت في قلبي وروحي كثيرا من الشجون حيث ذكرتني بأيام جميلة خلت؛ فقدت وجدت تشابها بين حكاية محسن باستثناء قصة الحب ربما ـ تجربة الطالب المغترب ـ مع تجربتي الشخصية في بداية دراستي في بريطانيا ، وأقصد ذلك المزيج الذي يصيب الطالب المغترب من الإعجاب والانبهار من الغرب المتحضر مع الحذر المشرقي من الانغماس والانسياق وراء المادية الغربية وفقدان الإرث الديني والثقافي. ففي لحظة مثلا يصف توفيق الحكيم الرهبة التي ملأت قلب محسن حين دخل الكنيسة لأول مرة والمشاعر المتخالطة التي ملأته حينها وأعتقد أنها تتقاطع بشكل كبير مع تجربتي الشخصية حين أخذتني ربة الأسرة التي سكنت معها أول وصولي إلى بريطانيا إلى قداس الأحد في أحد الأيام:
" دخل محسن "الكنيسة" ، ولم يكن قد دخل كنيسة قط، ولا حضر صلاة ميت من أموات النصارى … وخيل إليه أنه باجتياز العتبة قد ترك الأرض، وأرتقى إلى جو آخر، له عبيره، وله نوره! … هنا أيضا عين الشعور وعين الخشوع، الذي كان يهز نفسه كلما دخل في القاهرة مسجد السيده زينب! … هنا أيضا عين السكون، وعين الظلام في الأركان، وعين النور الضئيل الهائم كالأرواح في جو المكان! … إن بيت الله هو بيت الله في كان كل مكان وكل زمان …"
أخيرا، فإني وإن لم أتوافق أو أتقبل بعض الأفكار التي طرحها توفيق الحكيم في روايته حول علاقة وطبيعة الشرق والغرب إلا أني مع ذلك يمكنني تفهم ما كتبه توفيق الحكيم ضمن سياق الواقع العاصف التي كتبت في خضمه هذه الرواية كما يمكنني تفهم تأثره أيضا بكتابات المستشرقين عن الشرق الساحر. على أنه يبقى فوق كل ذلك حقيقة أن لتوفيق الحكيم لغة وأسلوب ساحر وممتع بغض النظر عن كل ما يمكن أن تعترض عليه من أفكار مطروحة بين السطور.
أترككم في الختام مع شذرات من بعض المقاطع التي أعجبنتي في الرواية والتي أمكنني تضمينها هنا:
" ذلك الانتظار الحلو المر، انتظار شيء جميل يرجو أن يحدث ولن يحدث، هو كل ما ظفر به "سليم"، وكل قلب على هذه الأرض، من إحساسات عليا، ماذا يهم من لقاء بعد ذلك بين حبيبين ؟ … إن خفقة القلب التي كانت تهز كيان "سليم"، كلما خطف بصره خيال امرأة المشربية، وذلك الصبر الطويل في القهوة في انتظار هذا الخيال هو كل جمال الحب !… "
" إن روح المسيحية، كما نبعث في الشرق، هي: المحبة والمثل الأعلى. وروح الإسلام: الإيمان والنظام. مسيحية اليوم الجديدة في الغرب، هي الماركسية … أما إسلام العصر الحديث في الغرب: فهي الفاشية"
" جاء نبينا "كارل ماركس"، ومعه انجيله الأرضي رأس المال، وأراد أن يحقق العدل على هذه الأرض، فقسم "الأرض" وحدها بين الناس ونسى السماء فماذا حدث؟ … حدث أن أمسك الناس بعضهم برقاب بعض، ووقعت المجازر بين الطبقات تهافتا على هذه الأرض!! "
" إن الذي يؤلمني الآن : هو حياتي بعد ذلك … لقد أسرفت في الخيال فجلعت منك جنتي، وعشت هذا الخيال، وليس من الهين على أن أعيش من فوري في شيء آخر! … إني مثل ذلك "الملحد" الذي طرز حديثا من حظيرة الإيمان فتشرد بعد ذلك قلبه، لا يدري أين يسكنه! … مثله مثل صلعوك من صعاليك الحياة، إذا طلع النهار انساق إلى ترهات العقل، حتى يجن الليل، فأوى بقلبه إلى حيطان العقيدة ينطرح فوق الأفاريز "
" لماذا أراد الناس أن يجعلوا الله في حاجة إلى السجاجيد الفارسية يفرش بها بيوته؟… والسيدة في حاجة إلى النذور والنجف؛ كأنها لا تستطيع النوم في الظلام، ثم ذلك القمقم الفضي في الكنيسة، وتلك الإشارات والعلامات، لماذا كل هذا؟؟ … حتى الموسيقى العظيمة، التي استطاعت أن ترفع الإنسان إلى بعض القمم، سرعان ما جعلوا لها ثياب سهرة؛ ترتدى من أجلها، وقواعد وتقاليد؛ لابد من مراعتها! … وتنقلب الأمور على مر الزمن، فينسى الناس الأصل والجوهر، ويذكرون الفرع والعرض …"
تقييمي الشخصي: ٩/١٠
تقع الرواية ١٤٦ صفحة. نشرت الرواية لأول مرة عام ١٩٣٨، بين يدي طبعة دار الشروق التاسعة ٢٠١٦م.
القادم رواية الوتد لخيري شلبي.
تعليقات
إرسال تعليق