قراءة لكتاب الهويات القاتلة لأمين معلوف



هذه هي تجربتي الأولى مع الكاتب والروائي اللبناني الشهير أمين معلوف والأكيد أنها لن تكون الأخيرة، فالتجربة ورغم بعض الملاحظات والتحفظات كانت تجربة فريدة ومكسبا شخصي كبير ذكرتني بالمشاعر واللحظات التي اختلجتني أمام كتابات  من أمثال كتابات محمد عابد الجابري، محمد حسنين هيكل، نجيب محفوظ، علي الوردي ونصر أبو زيد وغيرهم وهي كتابات أثرت فيّ  شخصيا وعلى توجهاتي الثقافية والسياسية والأدبية. على أني هنا بالطبع لا أقارن بين كتابات أولئك ولا بينهم وبين معلوف من ناحية التأثير إلا أن الأكيد الذي يجمع بين كل تلك الكتابات أنها كانت كتابات تركت جزءا منها في نفسي وشخصيتي. 


في كتاب " الهويات القاتلة " وكما يتضح من العنوان يعالج أمين معلوف التأثير السلبي التي تتركه الهويات المختلفة سواء كانت دينية أو إثنية أو لغوية أو حتى جنسية على الأفراد والمجتمعات وكيف سخرت تلك الهويات وعلى طول التاريخ  الإنساني المكتوب في إذكاء الصراعات والحروب بين المجتمعات، وفي تبرير أكثر الجرائم الإنسانية بشاعة وفضاعة؟ بمعنى آخر كيف أصبحت تلك الهويات أداة للتفرقة والعداء، أي كيف أصبحت في النهاية هويات قاتلة؟ يقسم معلوف كتابه إلى جانب المقدمة والخاتمة إلى أربعة مقالات رئيسية، وهي: هويتي انتمائي، عندما تأتي الحداثة من عند الآخر، زمن القبائل الكونية، وترويض الفهد.


 في القسم أو المقال الأول يفصل معلوف في موضوع الهويات ومطلب الشمولية فيها في مقابل الانعزال ابتداء من هويته الشخصية التي يتقاطع فيها المشرق مع المغرب والمسيحي مع العربي ليخلص أن الهوية واسعة بطبيعتها وشاملة للكثير وأنها في المقابل تنقلب لتصبح قاتلة في أحيان كثيرة عندما تعود إلى " المفهوم القبلي " لها أي حينما " تختصر في انتماء واحد يحصر البشر في موقف متحيز ومتعصب، متشدد ومهيمن بل انتحاري في بعض الأحيان، غالبا ما يحولهم إلى قتلة أو اتباع قتلة، فتتشوه رؤيتهم إلى العالم وتنحرف ". حينها يصبح منطق التعامل بين الثقافات قائم على فكرة نحن وهم و يحق لنا في هي هذه الحاله ليس فقط العداء المطلق للآخر بل ايضا يحق لنا الاستبداد و ارهاب من نشترك معهم في المصير اذا خالفوا نظرتنا العدائية للآخر المختلف.   


في المقال الثاني يتجه معلوف إلى الإسهاب في الخصوصية العربية والإسلامية لفكرة الهوية القاتلة ليعود إلى بداية التاريخ العربي والإسلامي ويبحث عن جذور الهوية القاتلة التي تصبغ المجتمع العربي المعاصر، مستخلصا أن القراءة الموضوعية لتاريخ العربي/ الإسلامي يبرأ الإسلام  ـ الذي يتهمه الغرب كأساس لبُأس الواقع العربي ـ من جريرة التراجع العربي الحالي وغياب التسامح والانفتاح بين أفراده. منتهيا إلى أن الهوية القاتلة والمنغلقة للمجتمعات العربية المعاصرة ليست وليدة الإسلام والطبيعة العربية وحدهما و إنما جاءت كمحصلة لمجموعة من الأسباب السياسية والاجتماعية بالإضافة لتأثير الحداثة الغربية العكسي على مجتمع يرفض استقبالها من الآخر القوي والمهيمن. كما أن الخيار المتعصب الإسلامي الحالي لم يكن الخيار العربي الأول بعد نهاية الاستعمار بل كان الأخير ربما حيث يقول: " إن الأصولية لم تكن الخيار العفوي والطبيعي والخيار الفوري للعرب والمسلمين. فقبل أن يختار هؤلاء هذا الطريق، كان يجب أن تسد كل الطرق الأخرى و أن تعود السلفية ، بصورة لا تخلو من المفارقة إلى المناخ السائد ". 


في القسم الثالث من الكتاب يناقش معلوف التأثير العام للعولمة على تكوين الهوية القاتلة أو السلبية على المجتمعات، وهنا  يعم النقاش ليشمل المجتمعات الحديثة ومجتمعات العالم الثالث معا، كما يتطرق إلى المخاوف المبررة و غير المبررة التي تساق في وجه العولمة والتطور الهائل في مجالات التكولوجيا والاتصالات على الهوية الفردية وبالتالي دورها بأثر رجعي في تكوين الهويات السلبية: " إن هذه التحولات المنقطعة النظير التي تجري أمامنا من خلال أشكال لا عد ولا حصر لها من الطنين و الوميض ، لا تحدث دون نزاعات و مواجهات. فلا ريب أننا نتقبل جميعا الكثير من الأمور التي يقدمها لنا العالم المحيط بنا … ولكن يحدث لكل واحد منا أن يشعر بالنفور حين يحس بخطر يحدق بعنصر بارز من عناصر هويته - لغته أو دينه أو الرموز المختلفة لثقافته أو استقلاله … الأمر الذي يدفع البعض إلى الإمعان في تأكيد اختلافهم ". في مقابل ذلك يطرح معلوف أمله في أن تتمكن العولمة في النهاية من تكوين هوية عالمية يحتفظ فيها الفرد بالخصوصية الثقافية واللغوية في مقابل انفتاحه وتقبله للآخر المختلف. 


بناء على هذا يتطرق الفصل الأخير المعنون بترويض الفهد، والفهد هنا كناية عن " وحش الهوية الإنتمائية " كما يسميها معلوف عن كيفية معالجة وترويض الهوية القاتلة والانعزالية في العالم ويخلص أنه ومن خلال العولمة التي تحافظ في نفس الوقت على الهوية الفردية وخصوصا اللغوية ومن خلال الديموقراطية العادلة التي تقدس حقوق الإنسان " وكرامة البشر نساء ورجالا وأطفالا بغض النظر عن معتقداتهم أو لون بشرتهم أو أهميتهم العددية " و تقدم احترامها على الخصوصية الثقافية لشعب ما، يمكن أن تتجاوز الشعوب الوقع في شرك الهويات القاتلة. ينتهي الكاتب بعد ذلك في الخاتمة بملاحظة محزنة حين يأمل فيها أن يطالع أحد أحفاده يوما ما صفحات هذا الكتاب فيجده قد فقد أهميته مع تغير الأوضاع فلا تصبح هناك حاجة لمثل هذه المواضيع في عالمهم المنفتح، إلا أن الحقيقة المرة أنه الآن وبعد مرور ٢٢ سنة على صدور هذا الكتاب ـ ورغم التطور الهائل في وسائل الاتصال الذي حوّل العالم  حقا إلى قرية صغيرةـ تتنشر في معظم مناطق العالم العربي صراعات على أسس إثنية وطائفية وحتى لغوية وتزداد الحاجة الملحه إلى مثل هذه الكتابات ومثل هذه النقاشات يوما بعد يوم. 


في المقابل لا يخلو الكتاب من وجهة نظر قارئ بسيط مثلي من بعض الهفوات إن صح التعبير، أولها غياب الأسلوب العلمي في الطرح، فالكتاب أقرب للتأملات والتجربة الشخصية، يندفع خلالها الكاتب لإصدار بعض الأحكام العامة والنتائج دون أدلة علمية، كما تغلب على الكتابة غياب أسلوب النقد البناء في مقابل المحاولة المستميتة لإيجاد صيغة وسطية وإرضائية لمختلف الأطراف. في القسم الثاني من الكتاب يعتمد الكاتب في نقاشه على افتراض أن الغرب أصبح المثال الذي يحتذي به في الديموقراطية والتعددية وتقبل الآخر والالتزام بحقوق الإنسان في مقال الشرق أو العالم العربي المتجمد والمتخلف الرافض للآخر، والافتراض هذا وإن كان صحيحا في بعض جوانبه إلا أنه لا يمكن تعميمه على الطرفين، فكيف يتجاهل الكاتب الجرائم العنصرية التي تنتشر في أمريكا اتجاه الأقليات خصوصا السود التي نشهد اليوم إحدى تجلياتها كما يتجاهل جرائم الغرب الإنساني في المشرق في الفيتنام وكوريا والعراق،  كما يتجاهل الجرائم الإسرائيلية التي تعتبر امتدادا للغرب المتحضر والديموقراطي في الشرق المظلم في كل من لبنان وفلسطين وسوريا.اخيرا ، يغلب - وهذا مفهوم لكتاب موجه أساسا للغرب- على الكاتب النبرة الدفاعية في أثناء النقاش حول تأثير الإسلام والحضارة الإسلامية على مشكلات العالم الإسلامي المعاصر وبالتالي تغيب النظرة النقدية للفكر الإسلامي وأثره على حركة التاريخ العربي المعاصر. 


 يمكنني القول في النهاية أنه على الرغم من أن معلوف لم يقدم الكثير أو الجديد في كاتبه هذا، ورغم غياب النظرة العلمية في طرحه وقراءته إلا أن قدرته على دراسة وتشريح موضوع الهوية بهذه الطريقة التي وضعتنا في مواجهة حقيقة و مؤلمه مع طبائعنا وذواتنا على مستوى شخصي - لشخص مثلي لطالما اعتز بانتمائه العروبي فوق كل شيء-. بالإضافة إلى الاسلوب السلس واللغة الساحرة التي كتب بها معلوف، والتي جمعت بين الألم أحيانا والأمل في أحيان اخرى، جعلت تجربة قراءة هذا الكتاب فريدة ونوعية وذات تأثير سيبقى معي -على الأقل- على المستوى المنظور. 


ختاما اعتذر على الإطالة وأترككم مع بعض الاقتباسات التي أعجبتني من الكتاب لمن أحب الإستزادة: 


" غالبا ما ينزع المرء إلى التماهي مع أكثر انتماءاته تعرضا للتجريح. وحين لا يقوى على الدفاع عن نفسه أحيانا، يخفي هذا الإنتماء الذي يبقى متواريا في أعماقه، قابعا في الظل ينتظر ساعة الإنتقام … و سواء تحفظ عن إعلانه أم جاهر به على الملأ، فهو يتماهى معه، وإذ ذاك يسيطر هذا الإنتماء المستهدف - اللون، الدين، اللغة، الطبقة الإجتماعية … - على الهوية بكاملها، ويولد تضامنا لدى الأشخاص الذي يتقاسمونه … و يشجع بعضهم بعضا و يهاجمون الفريق الآخر ويصبح "تأكيد الهوية" بالضرورة فعلا شجاعا وعملا تحريريا … "  


" ما يصلح على تسميته "جنونًا قاتلا" هو تلك النزعة الكامنة لدى بني جنسنا للتحول إلى مجرمين حين يشعرون أن "عشيرتهم" مهددة، ذلك أن الشعور بالخوف أو بانعدام الأمان لا يرضخ دوما لاعتبارات عقلانية بل قد يكون مغاليا أو نابعا من عقدة الارتياب … 

لا أعتقد أن هذا الإنتماء الإتني أو الديني أو القومي أو ذاك يحمل نزعة إجرامية كامنة أصلا. ويكفي أن نستعرض أحداث السنوات الأخيرة لنرى أن كل جماعة بشرية، إذ تشعر ولو قليلا بالمهانة أو بوجودها مهددا، تنزع إلى إنتاج القتلة الذين سوف يقترفون أبشع الجرائم … "      


يقول للمهاجرين " كلما انطبعتم بثقافة البلد المضيف، استطعتم طبعة بثقافتكم" و للمجتمات المحلية " كلما احترم المهاجر ثقافتهالأصلية، انفتح على ثقافة البلد المضيف" 


" إذا كان البشر في كل البلدان، ومن كل الطبقات والمعتقدات كافة يتحولون بسهولة فائقة إلى قتلة، وإذا كان المتطرفون من كل المذاهب ينجحون بسهولة بالغة في فرض أنفسهم مدافعين عن الهوية، فذلك لأن مفهوم "القبلي" للهوية الذي لا يزال سائدا في العالم أجمع يشجع على هذا التدهور؛ و هو مفهوم متوارث عن النزاعات الماضية قد يرفضة الكثيرون منا لو نظروا اليه عن كثب، ولكننا لا نزال نعتنقه بحكم العادة … مساهمين بذلك هن غير قصد في المآسي التي سوف تحرك في أعماقنا غداة وقوعها مشاعر صادقة من الأسى و التأثر … " 


" لا توجود ديانة معصومة من التعصب، ولكننا لو قمنا بمحصلة هاتين الديانتين "الغريمتيين" لوجودنا أن الإسلام ليس سيئا لهذه الدرجة. ولو كان أسلافي مسلمين في أرض قد اجتاحتها الجيوش المسيحية، بدلا من أن يكونوا مسيحين في بلاد غزتها الجيوش المسلمة ، لا اعتقد انهم كانوا سيستمرون في العيش طوال أربعة عشر قرنا في مدنهم وقراهم، محافظين على ديانتهم. فماذا كان مصير مسلمي إسبانيا؟ وماذا حل بمسلمي صقلية … " 


" إن التاريخ يقدم البرهان الساطع على أن الاسلام يحمل في جوهره قدرات كامنة علي التعايش و التفاعل المثمر مع الحضارات الأخرى، و لكن التاريخ الحديث يبين كذلك أن التقهقر ممكن وأن هذه القدرات الكامنة قد تبقى طويلا في حالة كمون " 


" لو قمنا بدراسة التاريخ المقارن للعالم المسيحي و العالم الإسلامي، لاكتشفنا من جهة ديانة ظلت طويلا تجهل التسامح، و تحمل نزعة توتاليتارية أكيدة، ولكنها تحولت شيئا فشيئا إلى ديانة منفتحة، ومن جهة أخرى، ديانة حاملة لدعوة الإنفتاح و لكنها انحرفت تدريجيا عن دعوتها و اعتمدت متشددة وتوتاليتارية" 


" في الواقع ، اذا كنا نؤكد بكل هذا الغضب اختلافاتنا، فذلك لأننا بالضبط أقل و أقل اختلافا، لأن كل يوم يمر يقلص شيئا فشيئا اختلافاتنا ويزيد أوجه الشبه بينا بالرغم من نزاعاتنا و عداواتنا الأزلية " 


" من يملك العالم ؟ لا عرق ولا أمة تحديدا. فالعالم ملك لكل الذين يريدون أن يجدوا موقعا فيه أكثر من أي وقت مضى ، وملك للذين يسعون إلى استيعاب القواعد الجديدة للعبة - مهما كانت محيرة - لخدمة مصالحهم "     

يقع الكتاب في ١٩١ صفحة ، بين يدي الطبعة العربية الثالثة ٢٠١٥ لترجمة نهله بيضون، دار الفارابي. 

القادم رواية وسميه تخرج من البحر  


حمود السعدي 

لمتابعة الجديد ارجو فتح حساب الأنستجرام: hamoodalsaadi 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة للمجموعة القصصية أكابر لميخائيل نعيمة

قراءة لرواية خان الخليلي لنجيب محفوظ