قراءة لرواية الحي الروسي للكاتب السوري خليل الرز



" لقد أصبحت ببساطة كتلة مؤسفة من الحجر البارد الأصم. لم يعد يؤثر في شئ من الفضائع التي تجري أمامي. لم يعد القتل رهيبا في عيني، بل مملا لا أكثر. وأعترف بأنني أصبحت أملك من المناعة و القسوة و غياب الإيمان بأي مثل أعلى ، ما يجعلني قادرا على النوم بكل جوارحي بعد مشاهدة مجزرة حية كاملة على التلفزيون. و لا أعرف في الحقيقة ما اذا كنت انتظر ظهورنا جميعا ذات يوم على شاشات التلفاز بين الأنقاض و الجثث و الحرائق لكي تتحرك أخيرا مشاعري القديمة السامية من جديد" 
  
أشرت في تقديمي لرواية التانكي للروائية العراقية عالية ممدوح أن الأسلوب التجريبي في الأدب سلاح ذو حدين و مجازفة شجاعة تحسب للكاتب ، فهو  إما أن ينجح في الوصول إلى القارئ الذي يجد نفسه أمام تجربة فريدة وجميلة ومبهرة و إما أن تشكل حاجزا أمام القارىء وتعزله عن النص وأهدافه، مع رواية خليل الرز وجدت نفسي أمام التجربة الأولى أقف بعد إنهائها مبهورا متفأجئا بالتجربة الرائعة التي خضتها مع هذه الرواية و لعلها المرة الأولى الذي يصلني فيه مثل هذا الشعور من إحدى روايات البوكر منذ أن قرأت رواية فرنكشتاين في بغداد قبل خمس أو ست أعوام. هذا لا يعني بالطبع أنها أفضل ما قرأت من روايات البوكر العربي منذ ذلك العام إلا أنها هناك مع الأفضل من روايات البوكر مع شوق الدرويش وواحة الغروب وأنا هي والأخريات وبالطبع فرنشكتاين في بغداد. 

رواية أبطالها زرافة وكلبة أفغانية وقطة وكلب بولدوغ ومترجم في حديقة حيوان مع مديرها وصديقته بالإضافة إلى فنان مسرحي وروائي فاشل و راقصة و عشيقها الرياضي الحاصل على الميداليات الذهبية لكل منهم دوره في تقديم صورة شعب وربما شعوب آثرت الصمت والإذعان أمام الطغيان والظلم معتقدة أن هذا سيجنبها المصير الذي تراه يوميا ينزل على كل من يقف أو يظهر شيئا من الرفض أمام هذه القوى، إلا أن الواقع دائما ما يكون مخالف لذلك أذ لا بد للجميع أن يشتركوا في نفس المصير في النهاية. 

يقدم خليل الرز في روايته عالما فريدا من نوعه يقف في الوسط بين الخيال والواقعية ، تتحرك الرواية فيه إلى شيء من اللا معقولية إلا أنها مقبولة ضمن قواعد العالم الغريب الذي ابتدعه. تدور أحداث الرواية في حي على أطراف العاصمة القديمة ـ وهو ما يكرره الكاتب عامدا و له دلالات لا تخفى ـ خلال أعوام الحرب الأهلية التي تعيشها سوريا. قريبا من الحي الغريب الذي يعيش في عالمه الخاص والذي قرر أهله النأي بأنفسهم عن الصراع الدائر في سوريا تقع غوطة دمشق المحاصرة من قبل قوات النظام السوري وهو الأمر الذي يجعلهم ـ أي سكان الحي ـ في قلب الصراع السوري بين دبابات وطائرات وبراميل النظام السوري التي تقع على جيرانهم في الغوطة ـ و الجيران هنا و التي يكررها الكاتب كثيرا لها دلالتها الواضحة ـ و تقتحم شوارعهم يويما وبين قذائف الهاون التي تسقط على رؤسهم من جيرانهم المؤمنيين ودعاة الحق في الطرف الآخر الذي اعتبروا الحي مؤرة للمفاسد و الإنحلال. 

" المعروف أن الحي الروسي لم يراكم في حياته أي خبرة بالتظاهرات، ولا حاول ولا أراد يوما تجريبها و لا التفكير فيها حتى عندما عمت الكثير من المدن و البلدان في أول الأحداث. لقد أدرك جيدا، منذ نشوئه على أطراف العاصمة القديمة، أن بلادنا، منذ ثورة آذار المجيدة، لم تعد تنظر إلى المتظاهرين إلا باعتبارهم إرهابيين ممولين من جهات خارجية بالضرورة مهما بحوا أصواتهم بمطالب الناس و حقوقهم، وأن التظاهرات لن تعد سلمية في كل الأحوال ولو خرج المتظاهرون عراة إلى الشوارع "  
  
تتميز الرواية إلى جانب حبكتها الجميلة والمشوقة التي دفعت قارئا مثلي إلى التهام الكتاب في وقت قياسي بلغة سردية جميلة تسهب في الوصف الدقيق للمشاهد وحركة الشخوص والأحداث مكونة صورة سنيمائية غاية في الروعة تصل إلى ذروتها في مشاهد استثنائية من أمثال حركة الكلبة رئيسة بترفونا في أزقة الحي الروسي لتستعرض الأزمة الثقافية التي تعيشها سوريا في ظل الصراع المستمر لعشر سنوات حيث تلتقي في طريقها المسرحي المستقيل والروائي اليائس ورئيس مكتبة المركز الثقافي بالإضافة إلى مشهد الجنازة العجيب ثم النهاية الرائعة بدلالتها أمام مبنى التلفزيون الرسمي في ساحة الأموي. لن أقوم هنا بالحديث بإسهاب عن أحداث الرواية كما أني لن أحاول فك رموز الرواية و أحداثها وسأكتفي بالقول أنها رواية جميلة مشوقة تتحرك بسلاسة غريبة والأفضل أن يواجهها القارى دون أن يعرف عنها الكثير. 

أخيرا وقد انهيت الروايات الست التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية البوكر يمكنني القول  أن رواية الحي الروسي هي الأفضل لهذا العام و الأكثر إبداعا من بين الروايات المرشحة ـ The most creative one in this year short list.    

تقع الرواية في ٢٨٦ صفحة ، الطبعة الأولى ٢٠١٩ عن منشورات ضفاف/الاختلاف.
تقيمي الشخصي: ٩/١٠
القادم كتاب التجربة الدستورية في عمان لبسمة مبارك سعيد.  



حمود السعدي 

لمتابعة الجديد ارجو فتح حساب الأنستجرام: hamoodalsaadi

تعليقات

  1. الله ابداع في كل شي الله يحفظك في حلك وترحالك

    ردحذف
  2. راوية تستحق القراءة ...

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة للمجموعة القصصية أكابر لميخائيل نعيمة

قراءة لرواية خان الخليلي لنجيب محفوظ

قراءة لكتاب الهويات القاتلة لأمين معلوف