قراءة نقدية لرواية شوق الدرويش لـ حمور زيادة
لطالما اعتقدت أن كتابة الرواية التاريخية الناجحة تستطيع أن تجمع بين رصدها السليم لأحداث تاريخية ودراما إنسانية واقعية ومشوقة ونظرة معاصرة لتلك الأحداث والشخصيات من أصعب أصناف الكتابة الأدبية. غير أن حمور زيادة في رواية شوق الدرويش اقتحم هذا العالم وتربع على عرشه بكل جدارة في هذه الرواية الرائعة، وربما لا أجازف إن قلت أني أجدها في مستوى روايات تاريخية سبق وأن فازت بجائزة البوكر كرائعة يوسف زيدان "عزازيل" أو "واحة الغروب" لبهاء طاهر وتتقدم بمراحل على رواية "دروز بلغراد" (الفائزة بالجائزة عام ٢٠١١) لربيع جابر . ووجدتني وأنا أقرؤها حائرا أمام لجنة التحكيم التي اختارت رواية الطلياني للفوز في تلك السنة ( عام ٢٠١٥ ) على حساب هذا العمل فقد أدركت بعد بضع ورقات من الرواية أنني أمام عمل جبار بكل المقاييس لا يقارن برواية الطلياني أو غيرها من ما ترشح في تلك السنة، ولكن أمام الفصل الأخير من الرواية فقد تحولت تلك الحيرة إلى نقمة وغضب على هذه اللجنة الأدبية التي ارتأت أن رواية الطلياني هي الأجدر في نيل الجائزة.
تضعك رواية شوق الدرويش منذ بدايتها في قلب الأحداث الدامية لاقتحام القوات المصرية والانجليزية لمدينة أم درمان عاصمة الدولة المهدية، حيث تفتح أبواب السجون المهدية القاسية ليجد أحد أبطال الرواية “ بخيت “ نفسه طليقا وسط الدماء والأشلاء في المدينة المستباحة. في هذه المرحلة نعلم فقط رغبة بخيت في الانتقام وخطته لقتل ست أشخاص سببوا له فجيعةً لا نعرفها. تتكشف خطوط الحكاية فينقلنا الكتاب بطريقة جميلة بين الحاضر والماضي في إطار غير متسلسل يزيد من تشويق وجمالية الرواية نتعرف من خلالها على أبطال الرواية الثالثة: ثيودورا اليونانية القادمة من الاسكندرية إلى الخرطوم ضمن البعثة الكاثوليكية، وحسن الجريفاوي المتدين البسيط الذي يهجر زوجته ليتطوع للجهاد في جيش مهدي الله، وبخيت العبد الذي يعيش في صباه حياة شاقة مع سيده الأوروبي المثلي ثم حياة الجحيم في رحلة الحب والانتقام الخاسرة .
تتداخل الشخصيات مع بعضها مكونة في المشهد النهائي قمة المأساة الإنسانية حين يدرك حسن الجيرفاوي أنه لا يختلف عن بخيت الذي أودت به محبة ثيويدورا ليصبح قاتلا ويعيش حياة من الشقاء والعذاب بسبب رغبته للانتقام مِن مَن آذوا و عذبوا حبيبته، فقد أودت به هو الآخر-حسن الجريفاوي- محبة الله فتبع المهدي الذي اعتقد أن الله بعثه مخلصا من الظلم والطغيان المصري-التركي ليضيع بعدها طريق الله ويقع في الكراهية ويصبح قاتلا للأبرياء. أما ثيدورا فتودي بها محبتها واعتزازها بجنسها الأبيض وعنصريتها حيث تحرمها من تحقيق السعادة مع الشخص الوحيد الذي أحبها وأحبته في حياة الرق التي تعيشها بعد انتصار الدولة المهدية. اكتفي بهذا الشىء من القصة حتى لا أضيع متعتها على القارئ.
على الجانب التاريخي يرصد الكاتب من خلال هذه الشخصيات قيام وانتهاء الدولة المهدية مبتدئا بالظلم الذي يرزح تحته السوداني البسيط على يد الاستعمار الأوروبي وأذنابه من المصريين والترك مفسرا بذلك سبب النجاح الباهر لهذه الدعوة الدينية. ينتقل بعدها الكاتب إلى نقد التحولات التي شهدتها الدعوة المهدية من دعوة إلى رفع الظلم إلى مؤسسة للقتل والتكفير والاستعباد، وهي الحالة التي أصابت جميع الدعوات ذات الطابع الديني التي تتغير بعد الانتصار من دعوة لرفع الظلم إلى أداة للاستعباد والمكسب والغنيمة، معتبرا الآخر المختلف عنها كافرا دون منزلة البشر لا يستحق الحياة وإن استحقها فإنه يستحق حياة لا تتعدى منزلة العبودية.
على مستوى الأسلوب فقدت كتبت الرواية بأسلوب جديد وفريد بالنسبة لي، فرغم حضور الكاتب العليم إلا أن الفصول كتبت حسب طبائع ورؤى أبطالها فنجد الألفاظ المملوؤة بالعنصرية والنرجسية والاستحقار للجنس الأسود السوداني في مشاهد ثيودورا، ونجد التدين والتصوف السوداني في مشاهد حسن الجيرفاوي. على مستوى اللغة فاللغة بديعة وساحرة وغنية بتعابير لغوية جميلة وجديدة ومبتكرة كقوله مثلا “أما القاتل فقد امتطى ذهول الجموع وهرب “ أو “ لقد ضربته بيقين لو نزل بجبل لنسفة يا ابن العرب “.
هذا جزء يسير من ما تحفل به هذه الرواية الثرية سواء على جانب النقد الاجتماعي والتاريخي أو على مستويات اللغة الأدبية والدراما والشخصيات. رواية من أروع ما قرأت من الروايات التي ترشحت أو فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية ، من شديد الاجحاف و الظلم أنها لم تفز.
أخيرا أن تنجح رواية في رصد ونقد مرحلة تاريخية بكل تفاصيلها وشخصياتها مع احتفاظها بطابع درامي وقصة إنسانية مشوقة تتعدى الأزمان والثقافات المختلفة ثم يضاف إليها استخدام عبقري للخط غير المتسلسل للأحداث ( nonlinear plot ) فهو ليس بالأمر الهين يجعلك تعتبر حمور زيادة في مصاف النخبة من الأدباء، يجعلني أترقب بكل لهفة لأعماله القادمة.
الرواية بين يدي في طبعتها الرابعة (٢٠١٥) تقع في ٤٦٠ صفحة منشورة عن دار العين للنشر.
تقيمي الشخصي : ٩/١٠
مر ٥٤ يوما و ١٠ كتب ، القادم هو رواية صنفت ضمن أفضل مائة رواية عربية بعنوان صنعاء … مدينة مفتوحة للأديب اليمني محمد عبد المولى
حمود السعدي
تعليقات
إرسال تعليق