قراءة في رواية ثرثرة فوق النيل لـ نجيب محفوظ
قبل كل شيء علي أن أعترف أنه لم يأثر علي فكريا وربما على فلسفتي في الحياة ومعناها أحد من الكتاب العرب كما أثر علي هؤلاء الثلاثة وهم محمد حسنين هيكل ونجيب محفوظ وبدرجة أقل نصر حامد أبو زيد. وربما لا أجازف إن قلت أني أؤمن أن من لم يقرا لنجيب محفوظ لم يقرأ شيئا من الأدب العربي المعاصر. وأن من لم يقرأ أو يسمع للأستاذ محمد حسنين هيكل ما عرف شيئا من الأسرار والخبايا السياسية العربية الحديثة التي شكلت مجتماعتنا المعاصرة، ولا عرف قراءة التاريخ عبر نظرة إنسانية تبتعد عن منطق الأبيض والأسود في تصنيف الأحداث والأشخاص. ولذلك فهذه محاولة، محاولة فقط لتقديم قراءة بسيطة لرواية الأديب الكبير نجيب محفوظ.
رواية ثرثرة فوق النيل هي الرواية السادسة عشر للكاتب الكبير ونشرت لأول مرة في عام ١٩٦٦م قبل سنة واحدة فقط من كارثة نكبة عام ٦٧م . تدور الرواية حول مجموعة من المتعلمين يمثلون الطبقة المثقفة الحائرة في المجتمع العربي. لا يجمع بين شخوص الرواية إلا محاولة هروبهم من الواقع عبر جوزة الحشيش إلى عالم السلطنة والوهم. على النقيض من روايات نجيب محفوظ السابقة تتميز رواية ثرثرة فوق النيل في معظمها بوحدة المكان والشخوص.
بطل الرواية هو أنيس وهو موظف ارشيف في وزارة الصحة يتميز بشدة الثقافة التاريخية التي نشطتها مكتبته التاريخية أما بقية الأبطال فهم : أحمد نصر موظف شؤون حسابات كفؤ ورب أسرة ملتزم، وعلي السيد صحفي وناقد فني، وخالد عزوز كاتب قصص قصيرة يعيش من تركة أبيه، مصطفى راشد محامي ناجح وفيلسوف صاحب نظرة مختلفة للحياة، وليلى جامعية تعمل مترجمة في وزارة الخارجية بلغت الثلاثينات دون زوج، وسنية كامل متزوجة ولها أولاد تلجأ إلى المجموعة عند أي خلاف بينها وبين زوجها، ورجب فنان سنيمائي مشهور، وأخيرا عم عبده غفير العوامة الذي يعيش تناقض ساحق بين إمام المسجد والقوادة بالليل. أما عن المكان فإن معظم الرواية تدور في عوامة على شط النيل يعيش فيها أنيس ويجتمع فيها بالرفاق يوميا لتدخين الجوزة.
تدور أحداث الرواية في معظمها حول ليالي السمر التي يقضيها الرفاق مسلطنين على ظهر العوامة باحثين في الجوزة عن ملاذ يخرجهم من حياتهم الرتيبة وأزمتهم الحقيقية. تنقلب الأمور مع زيارة شخص جديد للمجموعة و هي صحفية جادة تدعى سمارة. تحاول الصحفية التي ترفض تدخين الجوزة فهم الأسباب التي جمعت هؤلاء الأشخاص معا وسبب إدمانهم على تدخين الجوزة محاولة في الوقت نفسه توظيف هؤلاء الأشخاص كأبطال لمسرحية ترغب في كتابتها. يغير وجود الصحفية الأجواء داخل العوامة وهو أمر لا يرضي الجميع فيها.
كما يوحي عنوان الرواية ثرثرة فإن معظم الرواية عبارة عن حوارات بين أبطال الرواية تدور وهم منتشين داخل العوامة. وتستمر الرواية على هذا النسق في معظمها إلا الفصلين الأخيرين وهما فصلي الذورة في الرواية حيث يخرج الجميع من العوامة في منتصف الليل ـ spoiller alert ـ و يحدث شيئا ـ لن أكتبه ـ ولكنه يقلب أوضاع الجميع ولأول مرة منذ بداية الرواية نتعرف على الشخصيات بحقيقتها دون الحجاب الذي كونته الجوزة حولهم كاشفا في الوقت نفسه عن تناقضات وجودية وقيمية وأخلاقية صارخة.
من الاختصار السابق قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن الرواية في معظمها عبارة عن حوارات في نفس المكان ونفس الشخوص هي وصفة لرواية قد تبدو سيئة ومملة، ولكن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. فالحوارات الشائقة التي تحفل فيها الرواية والتي تطرح الكثير من الأسئلة النقدية حول ما نعتبره قيما أخلاقية حول العدالة ومفهومها وحول الدولة والاشتراكية والسلطة المطلقة التي تحرم المثقفين من المشاركة في بناء الدولة الحديثة، تجعلك تتبع الحديث بكل تفاصيله. كما تطرح الجدل حول مفاهيم العدمية والحياة والموت كل ذلك في ضمن حديث مشوق تجعلك تتمنى أن لا تنتهي تلك الليلة ويتفرق بعدها الرفاق. على مستوى اللغة والنص فاللغة كما في كل روايات نجيب محفوظ التي قرأتها تتميز بالجمال ولكن تختلف هذه الرواية عن الأسلوب الذي اعتدت أن أقرأه لنجيب محفوظ في البنية الوصفية، فبينما نجد نجيب محفوظ في الثلاثية يستخدم أسلوب الوصف الدقيق للتفاصيل من منطق خارجي وبغض النظر عن الشخصيات فإنه في رواية ثرثرة فوق النيل ينطلق من مشاعر الشخصيات وأسلوبها في الوصف وبذلك نجد على عكس الثلاثية تقاطع بين الشخصيات وبين ما تراه حولها مكونة نموذجا موحدا بين الشخصية والبيئة حوله.
على الجانب الآخر ربما كان الخطأ الوحيد الذي وقع فيه الكاتب وهو خطأ شائع هو محاولة الزيادة في شرح حقائق يفترض أن يستوعبها القارئ من خلال النص ولا يحتاج إلى إعادة شرحها بصورة مباشرة في منتصف الطريق. وهو ما وقع فيه الكاتب في فصل المسرحية وحيث تقوم سمارة بتحليل وصفي للرفاق العوامة وهو ما يدل على أن نجيب محفوظ لم يثق في قدرة قارئه على استيعاب شخصيات العمل من خلال حواراتهم وحديثهم فوجد نفسه مضطرا إلى شرحهم مرة أخرى.
في نهاية الحديث أريد أن أختم بأني لطالما أعتقد أن بعض الكتابات يكفيها مقال أو نص لإيفاءها حقها وبعضها لا تكفيها حتى المجلدات وأعتقد أن رواية ثرثرة فوق النيل تنتمي إلى الفئة الثانية. أخيرا إن كنت تملك الرواية ولم تقرأها فإني أدعوك لترك ما في يديك وتقرأ رائعة نجيب محفوظ ثرثرة فوق النيل.
الرواية بطبعتها الجديدة نشرت عن دار الشروق ضمن مشروعهم لإعادة نشر روايات نجيب محفوظ. تقع الرواية ١٦١ صفحة.
تقيمي الشخصي: ٩.٥/١٠
مر ٢٥ يوميا و ٥ كتب ، الكتاب القادم هي مجموعة قصصية لصاحب رائعة رجال في الشمس غسان كنفاني بعنوان أرض البرتقال الحزين.
حمود السعدي
للمزيد ارجو فتح حساب الأنستجرام: hamoodalsaadi@
تعليقات
إرسال تعليق