قراءة لرواية السائرون نياما لسعد مكاوى
لعلي لا أستبق الحديث إذا قلت أن هذه الرواية "السائرون نياما" للأديب المصري سعد مكاوى هي أفضل وأروع رواية تاريخية أقرأها مذ قرأت رائعة رضوى عاشور "ثلاثية غرناطة" قبل أربع سنوات، كما شكلت الرواية ربما أكبر مفاجئة لي من بين الروايات التي اخترتها من قائمة أفضل مائة رواية عربية في القرن العشرين لرواية ولكاتب لم أسمع بهما سابقا، ولعل غياب الشهرة والاحتفاء التي تستحقها الرواية هو الذي دفع دار الشروق لنشرها " ضمن مشروعهم لإعادة نشر نصوص متميزة ونادرة أو منسية من الأدب المتميز والممتع الذي شكل علامات مهمة في مسيرة الأدب العربي الحديث " حسب رأيهم.
في رواية السائرون نياما يأخذنا سعد مكاوى إلى لحظة من أكثر لحظات التاريخ الإسلامي والعربي انحطاطا وأكثر لحظات التاريخ غرابة وإثارة للتساؤل وهو عصر المماليك في مصر والشام حين أصبح العبيد والمخطوفين القادمين من خارج المجتمع العربي فجأة ملوك العالم الاسلامي. تدور أحداث الرواية خلال الثلاثين سنة الأخيرة من حكم المماليك في مصر بين عامي ١٤٦٨-١٤٩٩م، وهي فترة شديدة الاضطراب في التاريخ المصري تعاقب فيه على حكم مصر سبعة من الحكام المماليك قتل أحدهم بعد ساعات من إمساكه زمام الأمور، وقضى أحدهم ثلاثة أيام قبل أن يخلع من عرشه هاربا في ثياب النساء.
تتحرك الرواية في ثلاث مسارات مختلفة تتقاطع في بعض الأحيان وتتباعد في أحيان أخرى، ففي المسار لأول يطلعنا سعد مكاوى على الصراعات السياسية بين القادة المماليك بكل ما فيها من سيطرة الغلمان والجواري وانقلابات العسكر وجور بل جنون الملوك والولاة وفسادهم، أما المسار الثاني فيدور في أحد أحياء القاهرة يعرف بحي الحمام وأبطاله هم: صانع نعوش وصاحب قهوة و ولية من المجاذيب، يقاومون بطريقتهم مع آخرين من سكان الحي ظلم المماليك الذين يقتحمون عليهم أسواقهم فينهبون ويقتلون ويغتصبون، وتدور أحداث المسار الأخير للرواية في إحدى قرى ريف الجيزة "ميت جهينة" وتركز على الصراع بين ملتزم القرية الذي يسيطر مع أهله على كل أراضي الريف لصالح المماليك والفلاحيين الذي يعملون بالسخرة فيها.
يقسم الروائي كتابه إلى ثلاثة أجزاء، يعنونها بالطاووس والطاعون والطاحون، تدور أحداث الجزء الأول والثاني منها في ست الأشهر الأولى من عام ١٤٦٨م والتي شهدت وحدها أربعة انقلابات متتالية على السلطة من بلباي إلى تمربغا إلى الدودار خيري بيك لينتهي بوصول قتيباي إلى السلطة وبداية انتشار الطاعون في الصعيد المصري. تبدأ أحداث الجزء الثالث من الرواية بعد ثلاثين سنة من ما انتهى عليها الجزء الثاني ويفتتحها سعد مكاوى مع مشهد احتضار السلطان القوي قتيباي وبداية الصراع على السلطة بين خلفائه، أما في قاع المجتمع المصري فيستمر مسلسل معاناة سكان الحي القاهري وفلاحي ميت جهينة من الجيل الجديد من الأبناء مع من بقي من الناجيين من وباء الطاعون في مواجهة بطش المماليك واستبداد الملتزم وابنه. يقدم سعد مكاوى في هذه الفصول عشرات الشخصيات الرئيسية والثانوية والتي يميزها جميعها دون الاستثناء حتى تلك الشخصيات التي تظهر وتختفي سريعا هو العمق والتركيب. كل شخصية لها طبيعتها الخاصة وأسلوبها المختلف وملامحها التي لا تتكرر. كما لا توجد في روايته على كثرة شخوصها، شخصية سطحية أو تقليدية، حيث تملك كل شخصية مهما تضاءل حجمها دورها وصوتها المميز ومبرراتها المفهومة ضمن طبيعة العصر والأحداث.
على مستوى اللغة يميل سعد مكاوى في روايته إلى الطابع الصوفي والأسطوري، أما الحوارات والمشاهد فيعجز الوصف عن الإمساك بكل مزاياها التي يرسم لنا فيها سعد مكاوى مشاهد سنيمائية ثلاثية الأبعاد تتحرك فيها - من خلال الكلمات - الشخوص أمام القارئ فيراها بملابسها المزخرفة ويتسمع إلى أصواتها وهمساتها وتتراءى له مناظر الحدائق وحقول الأرياف، حتى الطاحون في ميت جهينة له صوته الخاص الذي لا يزال يرن في أذني حتى الآن وكأني حقا كنت أشاهد وأسمع لا أقرأ فقط.
حقيقةً يمكني الحديث إلى ما لا نهاية عن جماليات المشاهد وروعة الحوارات والمفارقات العجيبة التي يضع فيها سعد مكاوى قارئه وشخوصه بين لحظات العز والجاه والجبروت بل وحتى جنون السطوة، وبين لحظات التجرد الكامل والذل حين يتلاشى هيلمان السلطة وتصبح النجاة أغلى ما يملك الإنسان. ولعل أروع مشاهد الرواية كانت مشاهد الانقلابات والسقوط بعد السطوة وهي مشاهد رسمت بروعة عجيبة. أما المشهد النهائي للرواية فهو حكاية ورواية بحد ذاتها حبس فيه الروائي أنفاسي حتى اللحظة الأخيرة والتي ستظل بمعانيها ورموزها منقوشة في ذاكرتي إلى حين.
ثم هناك الطريقة التي يتحرك فيها سعد مكاوى بين الفصول والأماكن والشخصيات أو الأسلوب الذي يقدم فيها شخصياته ومواقفه في بداية كل فصل حيث يبدأ دائما بداية غامضة ثم تتفتح أمام القارى مفاتيح المشهد شيئا فشيئا بطريقة رائعة. الأكيد أن هنالك الكثير مما يمكن أن يقال عن الرواية ولن يكفيها هذا المقال السريع ولا عشرات المقالات فهي حقا تحتاج إلى دراسة مستفيضة وأعتقد أني لا أجازف إذا نصحت كل من يرغب في خوض غمار الكتابة الأدبية التاريخية في زيارة هذه الرواية قبل أن يبدأ في كتابته فقد يتعلم الكثير.
وعلى ذلك فلعلي لا أبالغ إن قلت أن هذه الرواية ـ بالنسبة لي ـ هي أفضل الأعمال الأدبية التاريخية التي قرأتها، وذلك لقدرتها على توظيف التراث في قضايانا المعاصرة، فعلى الرغم من أن الرواية تتمكن من نقل صورة أمينة ومتكاملة لك بتبيينها حيثيات وجوانب الصراع المملوكي في آخر ثلاثين سنة من عمر دولتهم بالإضافة إلى نقله الأمين لحياة المصريين البسطاء وحكايات الولاة والمجاذيب والملتزمين في شوارع القاهرة وأرياف البر المصري في تلك الفترة إلا أن الرواية تقدم قراءة للظلم والطغيان والثورة ـ وهذا مؤسف ـ حيث تتجاوز الأزمنة ويمكن إسقاطها على كثير من لحظات تاريخنا العربي المعاصر فالشعب المصري والمماليك وخدمهم الذين ساروا نياما بين عامي ١٤٦٨و ١٤٩٩م لا يختلفون عن الشعب المصري الذي سائر نائما في العصر الملكي أو عصر الضباط الأحرار أو عصر مبارك وشلته الفاسدة أو عصر السيسي الآن، كما لا يختلف عن معظم الشعوب العربية التي تسير نائمة وراء ملوك وأمراء ورؤساء عرضوها ولا يزالون لكل هذه الكوارث التاريخية التي نعيشها الآن، ببساطة لقد خلق لنا سعد مكاوى في رائعته الأدبية "السائرون نياما" حكاية سرمدية تصلح لكل العصور عن دواليب الصراعات السياسية وانقلابات العسكر إلا أنها في الختام تضع أمام القارئ أيضا السبيل الوحيد لخلاص الشعوب من ظلم حكامهم وتحكم الطبقات البرجوازية والإقطاعية في مصائرهم.
أخيرا علي التعريج ولو سريعا على نقطة معينة وهي محاولة دار النشر - الشروق - التسويق للرواية على أنها رواية كتبت لترمز للصراع بين الضباط الأحرار على السلطة بعد الثورة، وأعتقد أن هذا مخالف لواقع الرواية من وجهة نظري البسيطة بل على العكس فالرواية وإن انتقدت حكم العسكر بشكل عام إلا أنني وجدت أنها تهاجم العصر الملكي أكثر، وتسقط على أحداث آخر الدولة العلوية في مصر بصورة أكبر، ابتداء من صراعات الأحزاب على السلطة إلى الوزارات القصيرة وما استشرى فيها من فساد، والتي تتقارب بشكل مثير مع انقلابات المماليك وصراعتهم وفسادهم، كما أن الثيمة الرئيسية للرواية وهي مهاجمة الإقطاع واستئثار فئة قليلة بمعظم الأراضي الزارعية واستغلال الفلاحيين للعمل بالسخرة هو أكثر ما ميز ذلك العصر من الحكم المصري، وكانت الثورة المصرية ـ مهما قلنا عنها ـ هي من انتزعت الملكية من هؤلاء ووزعتها على الفلاحين في النهاية من خلال قانون الإصلاح الزراعي.
الرواية بطبعتها الجديدة منشورة عن دار الشروق ضمن مشروعهم لإعادة نشر النصوص المميزة المنسية من الأدب المعاصر، الطبعة الأولى للرواية منشورة ١٩٦٣ ، و بين يدي الطبعة الخامسة لدار الشروق ٢٠١٣ ، تقع الرواية في ٣٥٧ صفحة.
تقييمي الشخصي: ١٠/٩.٥
القادم المجموعة القصصية وجه رجل ميت للكاتب العماني أحمد الحجري.
ما شاء الله
ردحذفأحسنت
ردحذف