قراءة لرواية ناقة الله للأديب الليبي ابراهيم الكُوني
شكرا للأصدقاء في مجموعة "أمة إقرا تقرأ" على إهدائي هذا الكتاب المتميز …
" الفرار طلبا للحرية خارج الأوطان سجن، كما القبول بالسجن، أو حتى بالموت، داخل الأوطان حرية!"
" هنا وطنك ! جسدك مشدود إلى جسده، لأنه ملفق من جسده ! وروحك مشدودة إلى روحه، لأنها مستعارة من روحة ! فالويل ثم الويل لمن سولت له نفسه أن يتنكر لوطنه"
" المهاجرون لا يهجرون الأوطان لكي يتنكروا للأوطان، ولكنهم يغتربون لكي يجيروا الأوطان لكي يخلصوا الأوطان"
لا يخرج ابراهيم الكُوني في روايته ناقة الله عن عالمه المفضل الذي اشتهر به في كل رواياته تقريبا والذي خبرته في روايته الشهيرة والوحيدة التي قرأتها له إلى الآن " المجوس " ، وهو عالم الصحراء الكبرى وحياة سكانها الطوارق بكل تفاصيلها الاجتماعية والثقافية والدينية. على أن الكُوني هذه المره لا يعود إلى التاريخ البعيد في البحث عن سيرة الطوارق أهل الصحراء أو أهل الله كما يسميهم في رواية المجوس، بل يستدعي التاريخ المعاصر، فيعود لستينات القرن الماضي فقط ليضع أمام القارئ العربي الجرح الطارقي الكبير ومأساة الشتات التي أهملت وهمشت من الوعي العربي الإنساني والثقافي والسياسي المعاصر. كما يركز الكُوني في روايته على ثيمة رئيسية تطغى على ما عدها وهو الحنين إلى الوطن والحياة في ظل الاغتراب والهجرة القسرية.
تبدأ أحداث الرواية في سيتنات القرن المنصرم ومع أفول نجم الاستعمار الفرنسي الذي لم يخرج من إفريقيا قبل عن يقسم الصحراء الكبرى أو مملكة تيمبكتو وهي السكن التاريخي للطوارق بين أربعة دول هي الجزائر والنيجر ومالي وليبيا وهو الأمر الذي أدى إلى تشتيت أهل الصحراء وتقطيع طرقهم وتقسيم أحيائهم ثم ارتكاب المجازر في حقهم وتهجيرهم من مناطقهم في مالي على يد دول الاستقلال الأولى. بطلة الرواية وكما هو واضح من العنوان ناقة تأبى الرضوخ لمنطق القوة التي أودت بها وبصاحبها " اسيس " إلى الاغتراب الى شمال الصحراء الكبرى- ليبيا - لتهرب منه دائما إلى الجنوب في محاولة منها للعودة إلى أرض الوطن، أرض المولد، أرض الوتد.
ينقسم السرد في الرواية في البداية إلى ثلاثة محاور رئيسية : طفولة اسيس وبداية علاقته بناقة الله كما يسميها، وحكاية الهجرة والهروب مع ناقة الله من مذابح المرتزقة الماليين الذين عاثوا فسادا في الصحراء، ومحاولات ناقة الله العودة إلى الوطن في مقابل سعي اسيس لثنيها عن مبتغاها. تتحرك حركة السرد في الرواية في القسمين الأول والثاني بين هذه المحاور الثلاث ، أما القسم الثالث والأخير فيركز على رحلة العودة الأخيرة لناقة الله إلى أرض الوطن وسعي اسيس ورائها.
ينجح الكُوني في روايته في التأريخ لمرحلة من أهم مراحل التاريخ الطارقي المعاصر والذي اصطبغ في معظمه بالألم والحرمان كما تعرض إلى الإهمال من الوجدان العربي ، كما ينجح في نقل هذا التاريخ من خلال فن الرواية إلى الجمهور الأوسع فيرالعالم العربي، فقد دفعتني الرواية شخصيا إلى البحث أكثر واستكشاف تاريخ أهل الصحراء المعاصر وهو حقا تاريخ مؤلم ويحتاج إلى إعادة قراءة جديدة بعيدا عن الآيدلوجيات القومية والدينية. كما تتميز الرواية كروايات ابراهيم الكُوني الأخرى ـ تجربي محدودة برواية المجوس ـ بلغتها البلاغية الساحرة وتصويراتها البديعة والرائعة التي تجمع في ثناياها بين التراث والأسطورة والحكمة الطارقية-الصحراوية.
" كم من مرة سأل فيها نفسه عن سر هذه الأحجية المسماه وطنا؟ كم مرة جاهد في تفكيك هذا الطلسم بلا جدوى؟ ألا يكفي أن الأرض هي الأرض في كل مكان؟ ألا يكفي أن نتحمم بفيوض الشمس أينما نزلنا؟ ألا يكفي أن نجد أنفسنا بين الناس في كل مكان، وتكون لنا فرصة أن نتخذ من الأنعام أقرانا إلى جانب الأنام؟
ولكن شيئا يسكننا، لابد أن يستيقظ فينا ليستنكر حجتنا. شيئا لا اسم له ولا لسان له، ولا كيان له، ولا يعترف بمنطق البرهان، لأنه نداء. إنه النداء الذي لا يعترف بالأرض ما لم تكن أرضه ، ولا بسماء ما لم تكن سمائه، ولا بنجوم سواء نجومه، ولا بالشمس ما لم تكن شمسه، ولا بأنام ما لم تكن أنامه، ولا بأنعام ما لم تكن أنعامه، ولا بروح ما لم تكن روحه … "
على الجانب الآخر لا تخلو الرواية من الكثير من الملاحظات التي لم تجعل تجربتي معها تجربة مرضية إلى حد ما، أولاها أن الرواية تفتقد إلى الحبكة الرئيسية القوية التي تمكنها من دفع حركة السرد خلال فصولها الثمانية الخمسين ـ ٢٧٠ صفحة - ولذلك مالت الرواية في كثير من الأحيان إلى التكرار المفرط للأفكار والحشو الذي لا يقدم شيئا في حركة الشخصيات وتقدمها، فيرصد الكُوني مثلا فصولا للحديث فقط عن الأثر أو الماء أو الريح وهي وإن كانت احاديث جميلة إلا أنها لا تقدم أي جديد على مستوى السرد، الأمر الذي أفقد النص في كثير من الأحيان حرارة التدفق وكثيرا من العاطفة خصوصا عند التعامل مع فضائع وجرائم من النوع الذي يعالجها الكوني. اعتقد أن الكُوني لو اعتمد على محرر ذكي واقتطع ٧٠ إلى ١٠٠ صفحة من الرواية لكان تمكن من تقديم عمل أفضل بكثير إلا أن هذا هو اختياره الفني وهو من حقه طبعا.
ثانيا لم يعلم الكُوني كيف ينهي روايته، فهناك نهايتان للرواية، فالرواية حقا تنتهي في نهاية قسمها الثالث فمع ذلك الفصل تبلغ الرواية نهايتها الطبيعية إلا أن الكُوني أبى إلا أن يضيف فصلا أخيرا عنونه " الفصل الضائع من سيرة ناقة الله " لم يقدم فيه الكُوني جديدا على مستوى السرد، وإنما قام بطرح - بفجاجة ومباشرة غريبة لم تعجبني - الافكار التي كان مضمنة في روايته وكأنه لم يثق في قدرة قارئه على الإحاطة بالرسائل التي أراد إيصالها. أخيرا يميل الكاتب في النص إلى استخدام شيء من الألفاظ والتشبيهات العنصرية في تعامله مع السود وهو أيضا امر كنت اتمنى أن لا يلجئ إليه.
في الختام، فإن قراءة الكُوني حتى على الرغم من ضعف الحبكة أو الحشو ربما، تظل تجربة فريدة بسبب اللغة الساحرة والبديعة الذي يكتب به الكوني حكايته. اعتقد أيضا أني وبعد تجربتين مع الكوني خرجت بهما بنفس المحصلة وهي أني ليست من المغرميين بأسلوب الكوني وطريقة سرده ولكني مع ذلك أقدر فنه وإبداعه الذي له جمهوره الواسع.
تقيمي الشخصي: ١٠/٧.٥
تقع الرواية في ٢٨٦ صفحة ، بين يدي الطبعة الأولى ٢٠١٥ عن دار السؤال للنشر.
القادم رواية ما تبقى لكم لغسان كنفاني.
صحيح الرواية فيها حشو وتكرار للأفكار..كيف وصلت للقائمة القصيرة العالمية؟
ردحذف