قراءة لرواية دمية النار للكاتب الجزائري بشير مفتي
" بومدين هو قمة الغرور الذي تصنعه عظمة القوة لتكسر عظمة الشعوب "
لعلي لا أجاوز الحق إن قلت أنه ليس هنالك جيل عربي عاش في دولة الإستقلال كمًا من الخيبات والخسائر والظلم تتجاوز الخيبات التي نعيشها في أيامنا هذه كجيل السبعينات الذي عرف في مصر بجيل " ثورة الجياع "، فقد قدر لهذا الجيل أن يعيش في أكثر لحظات تاريخنا المعاصر ديناميكية وانقلابا وتناقضا، فلم يكد يخرج من ديكتاتورية الثورة والإشتراكية وحكم الرجل الواحد إلا ليسقط في زمن الإنفتاح المزيف والرأسمالية البشعة والفساد المستشري وبداية موجات الاقتتال الأهلي كما أنه كان الجيل الذي سحقته الهزيمة القاصمة في الستينات وأحبطه السلام الخاسر في السبعينات. يعود بنا بشير مفتي في روايته القصيرة دمية النار وإن كان بشيء من الخصوصية الجزائرية وبسوداوية كبيرة إلى قصة الخيبات الذي سيعيشها هذا الجيل من خلال شخصية رضا شاوش والانحدار الذي سيعيشه في زمن الهزائم والانقلابات.
تحكي رواية دمية النار قصة التقلبات التي سيعيشها رضا شاوش في دولة الانفتاح بعد وفاة بومدين، حيث يبدأ القصة كفتى ذكي متفوق دراسيا، ينشأ في ظل عائلة متوسطة الدخل وفي ظل أب متنفذ ، غير أن الأقدار تحمل له الكثير مع التغيرات السياسية الكبيرة التي ستعيشها الجزائر في الفترة التي اعقبت موت بومدين ، الامر الذي يؤدي إلى قلب حياته رأسا على عقب، ابتدأ من انتحار الأب الذي كان يعمل مدير لأحد السجون إلى خيبة الحب الأولى الذي ظلت تطارده حتى النهاية . يتصل بعدها رضا بمجموعة من المتنفذين الذين يحركون ويحكمون البلاد من وراء الظلال ليجندوه معهم فيبدأ معهم رحلة الإنحدار الكبرى في عالم الجريمة والفساد والقتل والاغتصاب ويصبح في الختام "دمية للنار" في يد هؤلاء ممثلا بذلك قمة المأساة الإنسانية لشعب فقد طريقه بعد الإستقلال و أصبح مصيره مرهونا بيد مجموعة صغيرة متنفذة من الفاسدين.
" لا أدري ، ولكن في تلك الدوامة كان كل شيء قد فقد وجهة، مثلما فقدت زنا روحي، صار العماء كليا، والهياج اللامرئي للحيوان المفترس كليا هو الآخر، صرت أنا، ولست أنا، صار الخيط الرابط بين الأول والثاني معدوما، ولم يعد وجهي يحيل على وجهي، وذاكرتي تقيأت ماضيها البريء لتقذفه في حمأة نار مستعرة، فإذا بي أولد شخصا آخر مليئا بأشياء آخرى، ودماء جديدة … دماء آخرين أمتص منهم روحهم، روحهم البريئة لأعيش. صرت الشر، ودمية الشر، صرت الشيطان، ودمية الشيطان، صرت تلك النار اللهبة والمستعرة، النار الحارقة والمسعورة، صرت مثل دمية النار، تحرق من يمسكها، صرت اللاشيء الفارغ من أي معنى، والذي لن يعيش إلا عندما يقدر مص دماء الأبرياء الذين يواجههم … "
إلى جانب البعد السياسي والاجتماعي التي تعالجه الرواية، فإنها تركز ومن خلال شخصيتها الرئيسية على القلق الوجودي الذي يعيشه الإنسان ورحلة البحث عن الذات في مجتمع وعالم مليئ بالتقلبات والمتغيرات. كما تطرح الرواية أسئلة وجودية حول مدى الدور الذي تقوم به الذات الإنسانية في تحديد مصير ذاتها وخياراتها وقدرتها على التغير في مواجهة العوامل الخارجية التي تشكل مجال حركتها في هذا العالم.
يرسم بشير مفتي شخصياته الرئيسية (رضا ، رانية ، العربي ، سعيد بن عزوز ) بصورة ذكية ومنطقية، و على رغم من التغيرات والتحولات الكبرى التي ستعيشها شخصيتي رضا ورانية خلال الرواية إلا أن الكاتب استطاع أن يرسم مسار شخصياته والتغيرات التي ستعيشها بصورة احترافية تتفق مع ماضي الشخصيات وحاضرها ومع ما واجهته خلال أحداث الرواية من مواقف خالقا لنا في النهاية دارما انسانية متميزة . تجدر الإشارة إلى أن الرواية وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية الرواية العربية لعام ٢٠١٢ ،الرواية بصراحة متميزة وتستحق الاحتفاء التي حصلت عليه وربما أكثر.
تقيمي الشخصي: ١٠/٧.٥
يقع الكتاب في ١٦٧ صفحة ، بين يدي الطبعة الأولى ٢٠١٣ عن منشورات ضفاف/إختلاف.
القادم كتاب الهويات القاتلة لأمين معلوف
حمود السعدي
hamoodalsaadi : لمتابعة الجديد ارجو فتح حساب الأنستجرام
تعليقات
إرسال تعليق