قراءة لرواية " وسمية تخرجت من البحر" للأديبة الكويتية ليلى عثمان
" تعالي يا وسمية لنصنع عيدًا … فأعياد هذا الزمان شحيحة "
" هيا يا حبيبتي …
لقد طال الغياب فلا تتدللي …
خلصي قدميك من محارة الزمن الماضي وتعالي …
ارقصي فوق صدري… تحرري من الخوف "
اخترت رواية " وسمية تخرج من البحر " من قائمة أفضل مائة رواية عربية في القرن العشرين التي وضعها مجموعة من النقاد والأدباء العرب التي على الاعتراف انها - رغم بعض الخيبات ـ أَثْرت مكتبي الخاصة وفتحت أمام قارئ محدود الاطلاع مثلي الافاق للتعرف على قامات الأدب العربي الذي ما كنت لأتعرف عليهم لولا هذه القائمة والتي شكلت المشهد الثقافي العربي خلال القرن الماضي الذي لم أشهد منه سوى بضع سنوات.
مع رواية " وسمية تخرج من البحر" وقفت محتارا في البداية وخصوصا خلال النص الأول من الرواية عن الأسباب التي بررت وجود رواية بقصة حب كلاسيكية بسيطة مثل هذه في تلك القائمة، ومع تلك القامات الكبيرة، وأعزته في البداية إلى الرغبة في الشمولية والتنوع إلا أنه ومع بداية النص الثاني من الرواية أدركت وقد سيطرت الرواية ومصائر شخوصها على كل مشاعري وجعلتني حسب التعبير السينمائي on the edage of my seat سبب استحقاق هذه الرواية مكانها بين الكبار إن صح التعبير. لقد أخذت ليلى عثمان في الفصول الأولى من الرواية كل الوقت في استعراض شخصيتها، وزرع بذور العلاقة بينها، ثم أخذت وقتها كذلك في عرض نمو تلك العلاقات وتطورها وصولا إلى مشهد الذورة الذي حبس أنفاسي في النهاية، وذلك رغم كل الإشارات والتمهيد الذي وضعته ليلى عثمان في بداية الرواية إلا أن المشاعر التي أصابتني مع ذلك في النهاية كانت طازجة - fresh - وقوية و مفاجئة وهو حقا ما لم أكن أتوقعه.
تعود ليلى عثمان في روايتها إلى الزمن الجميل - حسب تعبيرها في البداية - إلى الكويت في المرحلة القريبة من اكتشاف النفط وتدور أحداث القصة حول المعظلة الكلاسكية لقصة الحب بين شاب فقير ـ هو عبدالله ابن مريوم الدلالة ـ من عائلة تقع في أسفل الهرم الاجتماعي وفتاة غنية ـ هي وسمية - ابنة الحسب والنسب و في محاولتهم الانتصار بحبهم على الأعراف والتقاليد الاجتماعية.غير أن الرواية لا تقف عند هذه النقطة فمع تقدمها تنقلب ودون تنبيه لقارئها لمحاكمة مجتمع بكامله بكل تقاليده وأعرافه وقيمة و منظومته الأخلاقية التي نعتقد ويعتقد راوي الحكاية أنها كانت جميلة حين تساهم كلها مجتمعة في المأساة ثم طمسها ببرود في الختام وبكل راحة ضمير. تنجح الرواية في تقديم كل ذلك دون أن تقول كلمة واحدة سلبية اتجاه شخوصها واتجاه ذلك الجيل بل واتجاه تلك الأعراف التي ما زلنا دون استثناء في الخليج نتمسك بها حتى الآن، وهو أمر يحسب للروائية و ذلك لمراهنتها على وعي القارىء في ادرك ذلك دون ان تقوله بصورة مباشرة.
تتحرك الرواية في مسارين وخلال زمنيين لكل منهما أسلوبه الخاص: الأول يدور في الماضي وفيها يروي عبدالله حكايته في الطفولة التي نشأ فيها يتيما مع أمه الدلالة التي تعمل خادمة في البيوت وقصة حبة المأساوية مع وسمية. والثاني معاصر، وجاء على لسان الرواي العليم الذي يحكي قصة عبدالله في حاضره بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على تلك الحوادث وقد تغيرت البلاد حينها تغيرا كبيرا وكبر الرجل وتزوج وبلغ الخمسين، إلا أنه مع ذلك لم يتغير كثير وظل ذلك الماضي رغم قسوته ورغم الظلم الذي عاشه يشكل بالنسبة له الماضي الجميل الذي يفتقده ويحن إليه دائما، كما أن قصة الحب الفاشلة تلك والمأساة التي أصابته ما زالت تشكل كل حاضره وتصنع كل هواجسه بحرارة الماضي نفسه. بصورة رائعة وانسايبة وذكية، تتحرك ليلى عثمان في فصول الرواية القصيرة بين الزمنين والأسلوبين المختلفين مشكّلة في النهاية سيرة ملحمية لقصة الحب المؤلمة التي عاشتها شخوص الرواية.
إلى جانب تميز الرواية في اسلوبها السردي و شخصياتها المركبة، تتميز الرواية بلغتها الساحرة والسينمائية التي تمكنت من تشكيل القرية الساحلية بكل تفاصيلها بأزقتها الضيقة وشواطئها المفتوحة المزدحمة بالصيادين والنسوة العاملات، بجدارن بيوتها الطينية وأبوابها الهندية، بساكينيها من مختلف الطبقات والأعراق والمشارب. ببساطة تمكنت ليلى لعثمان في روايتها من تصوير المجتمع الكويتي بكل تفاصيله الدقيقة في زمن ما قبل النفط، كما تمكنت من نقل البحر ـ العزيز على الكويتيين وعليها ـ لقارئها بكل تفاصيله بحركة أمواجه وصوته وزبده وأسماكه بل حتى رائحته التي تخترق القارئ وهو يقرأ تلك التصويرات الرائعة. ولعلي لا أبالغ إن قلت أن اللغة الشاعرية التي كتبت بها الرواية هي البطل الرابع في الرواية وربما الأكثر تأثيرا إلى جانب عبدالله وأمه الدلالة و وسمية. الحقيقة أن الأسلوب واللغة الشعرية التي كتبت بها الرواية تحتاج إلى مقالها الخاص ولا يكفيها الجمل البسيطة التي دونتها هنا.
" يصيبني الملل … فأحمل رائحة البحر … ورائحة القاء الندي القصير ورملي المتناثر من أقدامي و …
أبتعد … والرمل يرسم المسافة ما بين بيتهم و بيتنا.
آآه ما أطول المسافة وما أبعدها. عذبتني المسافات و قهرت طفولتي "
" يتحرك في الطراد، يستلقي ويعتدل .. ينظر إلى البحر حزينا، هل يشكو له همه؟ يشكو زوجته اللعينة التي تكره زفره وصيده؟ أم يشكو البحر للبحر؟ يؤنبه، يعنفه، يرفع سلاحا ويذبحه؟ يمزق وجهه ووجه موجة بعد موجة حتى يصير زبدها دما أحمر؟ هل هو قادر أن ينتقم من هذا الجبار الهادر الذي أفجعه تلك الليلة؟ "
علي الجانب الآخر، لا تخلو الرواية من بعض الملاحظات ولعل أهمها باختصار هو عدم موالمة أحاديث الشخصيات وحواراتهم عن الحب والحرمان والطبقية مع طبيعة الشخصيات الذين كانوها ففي بداية الحكاية كان ما يزالون أطفالا، ثم إنهم جميعا ينتمون إلى جيل ما قبل النفط بل أن عبدالله وأمه ينتمون إلى الطبقة المسحوقة في ذلك العصر ولذلك فإني واجهت صعوبة نوعا ما، خصوصا في البداية في تقبل أن يتحدث هؤلاء بتلك الفلسفة عن الحب والفراق والصراع الطبقي ولكن ما إن تحايلت علي نفسي و تتجاوز هذا الموضوع حتى غرقت مع شخصيات الرواية وأحداثها.
في الختام، على القول انه اذا كان لكل ثقافة وكل عصر حكايته وقصته الكلاسكية الخاصة للحب المستحيل الذي يتحطم أصحابه أمام الصراعات الطبقية فإن قصة " وسمية تخرج من البحر " تصلح أن تصبح القصة الكلاسكية للحب العذري المستحيل في خليج القرن العشرين و لذلك فأني اتمنى انت تحصل هذا الرواية على مكانتها التي تستحقها في الثقافة الشعبية للخليج .
تقيمي الشخصي: ١٠/٨.٥
تقع الرواية في ١٩١ صفحة ، بين يدي الطبعة الأولى ٢٠١٢ عن دار الآداب. الرواية نشرت لأول مرة عام ١٩٨٦م.
القادم رواية ناقة الله لإبراهيم الكوني.
تعليقات
إرسال تعليق