قراءة لرواية "ما تبقى لكم " لغسان كنفاني
لا يبتعد الأديب الفلسطيني الكبير الشهيد غسان كنفاني في روايته الثانية التي كتبها بعد "رجال في الشمس " ـ الرواية الرابعة التي أقراءها له ـ في موضوعها عن الألم والهم الفلسطيني الذي تناوله في معظم كتاباته وأن من زوايا مختلفة على حسب الواقع السياسي الذي كان يعيشه الشارع الفلسطيني آنذاك، فروايته في الخمسينات ـ رجال في الشمس ـ تهاجم الصمت والخذلان الفلسطيني في المخيمات. وروايات ما بعد نكسة ٦٧ - عائد إلى حيفا وأم السعد ـ تدعو إلى وقف التباكي على الأرض المسلوبة وتؤكد خيار المقاومة وتحكي قصص بطولاتها. أما رواية " ما تبقى لكم " والتي نشرت في عام ١٩٦٦ وهو العام الذي شهد نشأة الجماعات الفدائية وانطلاق الثورة الفلسطينية أو الكفاح المسلح، فتحاكي الحدث التاريخ من خلال تحرر شخصياتها من السلبية والانتظار في المخيمات إلى الثورة في النهاية على الظلم الاجتماعي الذي حاق بهم وعلى من ظلمهم سواء كانوا من الإخوة أو الأعداء.
تدور أحداث الرواية حول حامد وأخته مريم وزوجها زكريا وتتحرك الرواية في مسارها وإن لم يكن بصورة مستقيمة من مشاهد التهجير والقتل في أحياء يافا عام ١٩٤٨ إلى حياة المخيم المؤلمة في غزة حيث تفرق الأهل وضاعت الأحلام الكبيرة. تبدأ الرواية بمشهد تزويج حامد أخته الكبيرة مريم لزكريا " النتن " مضطرا بعد أن حملت منه في علاقة عابرة، يقرر حامد في اليوم نفسه عبور صحراء النقب إلى الأردن لملاقاة أمه التي لم يرها منذ أحداث نكبة ١٩٤٨. تدور أحداث الرواية الرئيسية في معظمها في ذلك اليوم بين مريم وزوجها الجديد - المتزوج أصلا والذي لديه خمسة أولاد - والذي يطلب منها إجهاض الحمل، وبين حامد الهارب إلى أمه من الفضيحة المدوية في وسط الصحراء.
خلال ذلك اليوم يستعيد كل منهم الأحداث والتحولات التي عاشوها منذ النكبة والتي أدت بهم إلى هذا المصير المؤلم؛ كيف انقسمت العائلة بين أب شهيد وأم في الأردن وأبناء مع خالتهم المريضة في مخيمات غزة، وكيف ضاعت الأحلام الكبيرة لحياة الرفاه والتعليم والآمال الكبرى حتى أصبح زكريا الخائن النتن ـ من وجهة نظر حامد ـ أكبر آمال أخته المتعلمة العانس. ورغم الطابع والهم الاجتماعي الظاهري الذي تعالجه الرواية إلا أن رموزها ورسائلها السياسية لا تخفى بين الشاب الثائر والفتاة المستغلة والمغتصبة والخيار الوحيد الذي بقي لهم للخلاص. يعتمد غسان كنفاني في سرده على المنلوجات الطويلة الذي تتعدد فيه الأصوات بين حامد ومريم وزكريا وحتى الصحراء التي تمسك زمام الحكي في الرواية في بعض الاحيان.
على أن الرواية وإن اشتركت في موضوعها وهمومها مع باقي كتابات غسان فإنها تختلف كليا من ناحية الأسلوب عن كل ما كتبه كنفاني قبل هذه الرواية وعن كل ما كتبه بعدها، إذ يبتعد عن الأسلوب الكلاسيكي في السرد ويتجه اتجاها تجديديا حداثيا يهمل فيها معظم المسلمات الرئيسية لكتابة الرواية، فرغم تعدد الأصوات والأزمان والمواقع إلا أن الرواية تتحرك في مسار واحد ومن دون فواصل تنبه القارىء إلى أي من تلك النقلات عدا تغير حجم الخط الأمر الذي يجعل القارئ أمام متاهة سردية يصعب غورها والوقوف على كل تفاصيلها ورغم قصر الرواية التي لا تتعدى ١٠٠ صفحة تقريبا إلا أنها تحتاج إلى قراءة متأنية وإعادة قراءة في بعض الاحيان، كما أنها تحتاج إلى نفس طويل من القارئ. ولذلك فقد بدا لي أن الرواية لم تكن موجهة اصلا للقارئ العام وإنما للنخبة المثقفة التي احتفت بها، وقد قرأت بعد ذلك أن " غسان كنفاني لم يكن سعيدا أصلا بهذه الرواية لأنها لم تصل إلى الجماهير الذين يستهدفهم بكتاباته ولذلك فإنه لم يكتب بهذه الطريقة بعدها".
شخصيا لا أعتقد أن الأسلوب السردي الغريب أو الحداثي الذي استخدمه كنفاني أضاف كثيرا إلى الرواية فقد وجدتها محيرة ومربكة دون سبب فني مقنع ودون أن تضيف شيئا على تطور الأحداث أو حركة الشخصيات وكأنه كان إرباك لمجرد الإرباك فقط. غير أن الأكيد أن هذه الرواية على علتها ستظل عمل إبداعيا جميلا، ولكنها ليست أفضل أعمال غسان كنفاني ولا تعبر عن بقية أعماله، ولذلك فإني أنصح من لم يقرأ بعد لغسان كنفاني أن يضع هذه الرواية في أسفل قائمته حتى لا تصده عن روائع غسان الكلاسيكية كرجال في الشمس وعائد إلى حيفا.
الرواية بطبعتها الجديدة منشورة عن دار منشورات رمال بالتعاون مع مؤسسة غسان كنفاني الثقافية ضمن مشروعهم لإعادة نشر كتابات الأستاذ غسان كنفاني، الطبعة الأولى للرواية منشورة ١٩٦٦ ، والطبعة الأولى الجديدة منشورة ٢٠١٣ ، بين يدي الطبعة الثانية ٢٠١٤م. تقع الرواية ٨٨ صفحة.
تقييمي الشخصي: ١٠/٧.٥
القادم كتاب تاريخ عمان الحديث لجيرمي جونز ونيكولس ريدوت.
تعليقات
إرسال تعليق