قراءة للرواية المسرحية “ بنك القلق “ لسيد المسرح العربي توفيق الحكيم


على الاعتراف قبل كل شى ان هذه هي التجربة الأولى لي مع الادب المسرحي ، و آسفا اقول ان هذه اول عمل اقرئه لهذا الأديب الكبير . و كان سبب اهمالي لأعمال هذا الاستاذ الكبير نابعا من جهلى بالادب المسرحي و عدم ادراكي لاهمية هذا الفن الادبي الجميل. الا انها هذه التجربة قلبت و غيرت افكاري فقد كانت بحق تجربة فريدة من نوعها جعلتني و بعد انتهائي من قرأت فصلها الاول ارسل لأحد اصدقاء رسالة اقول فيها “ لقد اضفت اديبا جديدا الى قائمتي المفضلة للكتاب العرب مع نجيب محفوظ و غسان كنفاني و هو ابو المسرح العربي الاستاذ توفيق الحكيم “. و الغريب ان نجيب محفوظ كان حاضرا معي و انا اقرأ هذه الرواية بروايته الرائعه “ ثرثرة فوق النيل “ و الغريب ايضا ان الروايتان صدراتا في نفس العام و عام الانفجار كما سماه الاستاذ هيكل : ١٩٦٧م و كانا يحملان رسائل متشابه حول ازمة المجتمع المصري و أزمة النظام الثوري الناصري.
تدور احداث الرواية المسرحية بنك القلق حول أدهم و هو مثال للشاب المثقف الذي ضيعته الدوله العربية الحديثة سواء من خلال القمع المعنوي عبر انعدام فرصة العمل و الفقر و الحرمان او حتى في اقبية السجون على كلمة قالها أو رأي ادلى به. يلتقي أدهم ـ الذي يقضي معظم ليلة متسكعا في شوارع القاهرة بسبب عدم قدرة على دفع فاتورة الكهرباء في شقته العتيقة ـ بشاب كان زميله له في ايام الدراسة الجامعية ، ليكتشف ان هذا الأخرين لم يكن احسن حظ منه فقد طرد مثله من الجامعة و ثم فشل في عدة محاولات زوجيه تركته في النهاية معدم اقصى امنياته الحصول على سيجارة و سندويشه ليأكلها. يلتقي الصديقان مصادفتا علي كرسي على شط النيل و من هناك تبدأ الحكاية حين يقترح ادهم على صديقة ان يشاركة في انشاء بنك و لكن ليس أي بنك و انما بنك للقلق يعالج فيه الناس قلهم جاعلين من نفسيهما مدير و صراف ومن شقة ادهم العتيقة مقرا لهذا البنك .
يفشل المشروع في بدايتة فلا يزور الشابان في شقة ادهم احد لعدة ايام ، الا ان اقدارهم تنقلب فجأة حين يزورها رجل “ وجيه في الخامسه و الخمسين من العمر “ يدعى منير بك عاطف ليتضح انه كان من ملاك الاراضي القدماء التي اثر عليهم قانون الاصلاح الزراعي الذي سن بعد قيام ثورة يوليو. يتقدم البيك بعرض للشابان بتبني مشروع البنك و يعرض عليهم مرتب كبير و نقل البنك الي شقة فاخرة تقع في نص البلد ، يوافق الشابان بالطبع و هم غير مصدقين لما حدث فينتقلان الي شقة منير عاطف و يبدأن استقبال زبائن البنك لتبدأ معها حوارت رائعة و عبقرية حول مصر الثورة و مصر الملكية ، الاشتراكية و الرأسمالية ، المجتمع و المواطنة ، التقدمية و الرجعية و كل الاسئلة التي كانت تسيطر على اذهان المثقف العربي في تلك الحقبة و هي للاسف نفس الاسئلة التي تموج بها الساحة العربية حتى الآن.
باسلوب نقدي لاذغ و سخرية جميله غاية في الاتقان ـ جعلتني اضحك من كل قلبي في احيان كثيرة ـ و حوارت غاية في العبقرية يقدم تيسير الحكيم هموم المجتمع و المثقف المصري بشكل خاص و العربي بشكل عام في فترة حرجة من فترات التاريخ العربي . فلم ينتقد توفيق الحكيم في روايته الثورة المصرية و النظام الناصري فقط بل امتد انتقده كذلك الى النظام الملكي و الديمقراطية المزيفة التي كان يسيطر عليها ملاك الارضي في عصر ما قبل الثورة . فمع كل زبون من زبائن البنك يتركز الحديث حول نقد ظاهرة او حالة معينة في الحياة المصرية فهناك التقدمي الذي يرفض التراث الاسلامي و يخشى من تأثيره ، و هناك المتدين الذي يرى ان كل من حوله عبارة عن شيوعين كفار خلعوا ثوب الحياء و ظاهروا بالمعاصي ، و هناك شعب كامل فرضت عليه الاشتراكية و ادعى ايمانه به دون فهم حقيقي لتطبيقها فنجدهم يسعون لحياة تناقض الحياة الاشتراكية التي يسعى النظام المصري لتأسيسها و فوق كل هذا وذاك هناك شبح المخابرات المصرية التي بلغت اوجئ سطوتها و فسادها مع صلاح نصر ـ الذي حوكم في سنة ١٩٦٧ بتهم الفساد و التقصير . يطرح توفيق الحكيم بالاضافة الى مشكلات المثقف و المخابرات اذا كل التناقضات التي تكون المجتمع المصري و التي تجعل منه حقا بنك مثير للقلق قابل للانفجار و هو ما حدث فعلا.
لا تمتلك الرواية فقط بحوارتها الشيقة و مواضيعها الجريئة ـ التي خاض الاستاذ محمد حسنين هيكل معارك مع الاتحاد الاشتراكي ـ الحزب الوحيد المصرح به في تلك الفترة ـ لينشر حلقاتها على صفحة جريدة الاهرام قبل نشرها في كتاب ـ بل باللغة الساحرة و الرائعة التي كتب بها ذلك النص خصوصا في الجزء الذي يحمل اسلوب الرواية في كل فصل قبل تحولها الى الاسلوب المسرحي. كما قلت كتبت الرواية باسلوب جديد علي ـ لا اعلم ان كان مبتكرا ـ فهو يجمع بين المسرحية و الرواية فكل فصل يبدأ كأنه رواية ثم يتحول عندما يبدأ الحوار الرئيسي في الفصل الى مشهد مسرحيي. الاسلوب كان جميل و شيق فعال جدا حيث اضفت البداية الرواية في كل فصل نكهة جميلة على النص المسرحي للحوارات و ساعدت في تحريك الاحداث و فهم و تكوين الشخصيات الرئيسية في الرواية.
اخيرا ، على الاعتراف ان الرواية تحمل بعض الثغرات في الاحداث التي تبعد الرواية بعض الشيء عن الواقعية و تطرح بعض الأسئلة البديهية و التي لا يمكن ان اطرحها هنا بطبيعة الحال لانها قد تفضح نهاية الرواية ( بها big twist ) الا انها مع ذلك مما يمكن التغاضي عنه و لا تنقص من العمل و من اهميته.
الرواية بطبعتها الجديدة نشرت عن دار الشروق ضمن مشروهم لإعادة نشر كتابات توفيق الحكيم. تقع الرواية ٢٣١ صفحة. 
تقيمي الشخصي: ٩.٥/١٠ 
مر ١٢٩ يوميا و ٢٧٧ كتابا ، الكتاب القادم هي “ العائدون حيث الحلم “ للناشطة و الكاتبة العمانية حبيبة علي الهنائي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة للمجموعة القصصية أكابر لميخائيل نعيمة

قراءة لرواية خان الخليلي لنجيب محفوظ

قراءة لكتاب الهويات القاتلة لأمين معلوف