قراءة لرواية موسم الهجرة الى الشمال للروائي السوداني الطيب صالح

قراءة لرواية “ موسم الهجرة الى الشمال “ للروائي السوداني الطيب صالح 

انتهت بالامس من قراءة رواية “ موسم الهجرة الى الشمال “ للروائي السوداني الطيب صالح و هي اول رواية اقرائها لهذا الروائي الكبير و كان ردت فعلي الاولى بعد انتهائي من قراءة الرواية اني بحثت عن بقية رواياته في محرك بحث معرض الكتاب القادم و جعلتها في مقدمة ما سوف اقتنيه من كتب في المعرض القادم لانها كانت بحق رواية رائعة بكل ما تعنية الكلمة من معنى و لذلك فأنها ربما على خلاف بعض مما قرائته سابقا تستحق ان تكون ضمن قائمة افضل مائة رواية عربية التي وضعها اتحاد الكتاب العرب قبل بضعة اعوام ، و التي انصح من لم يطلع عليها بالاطلاع عليها فبها مجموعة كانت من افضل ما قرأت في حياتي ، كما تعرفت من خلالها علي مجموعة كبيرة من الكتاب الذي لم اسمع حتى بهم من قبل ـ وهذا طبعا من جهلي . 

تبدا احداث الرواية عندما يلتقي رواي الحكاية ـ الذي لا نعرفه اسمه ـ العائد من دراسة الدكتوراة في بريطانيا ببطل الرواية مصطفى سعيد بين من جاءوا لاستقباله في قريته المعزوله. يتفاجئ الرواي بهذا الغريب الذي يثير فضوله ، و مدفوعا بهذا الفضول يبدا الرواي بالاستقصى حول هذا المجهول الذي يعلم من اهله انه قدم حديثا الى القرية و تزوج من احدى بناتها و انه ذو سمعه طيبة و جيده في القرية. بعدها بالايام تدفع الاقدار الرواي الى حضور مشهد سوف غير حياته الى الابد فبينما هو ساهر مع احد اصدقائه القدماء يزورهم مصطفى سعيد الذي تاخذه نشوة الخمره ـ هذا ما يظهر من السطح ـ الى إلقاء قصيدة انجليزية بلكنة انجليزية بارعة الامر الذي ينزل كصاعقة على مسمع الرواي الذي هاله ما سمع مدركا ان مصطفي سعيد هذا ليس ما يدعي ، مأخوذا بما سمع يواجه الرواي مصطفي سعيد بما سمع  و يدعوه لكشف حقيقته التي يظهر جليا انه يخبائها على البساط في هذه القرية . في اليوم التالي ، يطلب مصطفى سعيد من الرواي ان يسهر معه ليحكي له حكايته الغريبة. 

تدور احداث الرواية حول سيرة مصطفى سعيد ، الشاب السوداني اليتم ، الذي توصله عبقريته الى ان يكون محاضر في الاقتصاد في ارقى الجامعات البريطانية ، كما يوصله اصله المشرقي ـ السوداني ـ الي قلوب الكثير من الفتيات البريطانيات الاتي يقعن في غرامة و عشقه و يوصلهن جنوهن به حد الانتحار. من خلال هذا الفكره و الاحداث التي تتلوها يقدم الكاتب قراءته لما سيعرف بعدها بصدام الحضارات بين المشرق و المغرب و بقايا افكار الاستشراق الكامنه في الفكر الغربي و تأثيرها علي رؤية الغربي الي المشرقي في عالم ما بعد الاستعمار ، ففي احدى مشاهد الذروة و الروعة في الرواية ، وفي اثناء ـ spoillers alart ـ محاكمة بطل الرواية بتهمة القتل يقول و هو يروي مشهد المحاكمة:  
“ المحلفون ايضا ، أشتات من الناس ، منهم العامل و الطبيب و المزارع و المعلم و التاجر و الحانوتي ، لا صلة بيني و بينهم ، لو انني طلبت استئجار غرفة في بيت احدهم فأغلب الظن انه سيرفض ، و اذا جاءت ابنة احدهم تقول له إنني سأتزوج هذا الرجل الافريقي ، فيحس حتما بأن العالم ينهار تحت رجليه “
“ انني اسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة ، وقعقة سنابم خيل اللنبي و هي تطأ القدس . البواخر مخرت عرض النيل اول مره تحمل المدافع لا الخبز ، و سكك الحديد انشئت اصلا لنقل الجنود . و قد انشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول “ نعم “ بلغتهم . “ 
 “ إنهم جلبوا الينا جرثومة العنف الأوربي الاكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم و في فردان ، جرثومة مرض فتاك اصابهم منذ ألف عام . نعم يا سادتي إنني جئتكم غازيا في عقر داركم . قطرة من السم الذي حقتنم به شرايين التاريخ “ 

كما تناقش الرواية ايضا حال الدولة المشرقية في عصر ما بعد الاستعمار ، ففي نقاش حول مصطفى سعيد يدور بين الرواي و بين رجل انجليزي سمع عنه و بين زميلهم السوداني يقول الراوي: 
 “ و بينما انبرى منصور يفند اراء رتشارد ، اخلدت انا الى افكاري ما جدوى النقاش ؟ … مصطفى سعيد قال لهم “ انني جائتكم غازيا  “ . عبارة ميلودرامية و لا شك و لكن مجيئهم ، هم ايضا ، لم يكن مأساه كما نصوره نحن و لا نعمة كما يصورون هم . كان عملا ميلودراميا سيتحول مع مرور إلى خرافة عظمى و سمعت منصور يقول لرتشارد “ لقد نقلتم الينا مرض اقتصادكم الرأسمالي . ،ماذا أعطيتمونا غير حفنة من الشركات الاستعمارية نزفت دماءنا و ما تزال “ و قال له رتشارد “ كل هذا يدل على انكم لا تستطيعون الحياة بدوننا. كنتم تشكون من الاستعمار ، و لما خرجنا خلقتم اسطورة الاستعمار الكستتر يبدو ان وجودنا ، بشكل واضح أو مستتر ، ضروري لكم كالماء و الهواء “ . ، لم يكونا غاضبين . كانا يقولان كلاما مثل هذا و يضحكان على مرمى حجر من خط الاستواء ، تفصل بينهما هوة تاريخية ليس لها قرار “ 

كما تتطرق الرواية بعد ذلك الى نقد المجتمع و التقاليد السودانية و فضح التناقضات الاخلاقية و القيمة في المجتمع السوداني بشكل خاص و المجتمع المشرقي بشكل عام. اكتفي بهذه الاقتباسات و هذا الكلام حول الرسالة الفكرية التي اعتقد انه الروائي اراد ايصالها بين طيات الرواية و هو الذي ادرك مسبقا ان لا يغطي و لا القسم اليسير من ما طرحته الرواية و لو اني ضمنت هنا كل ما وجدته فيها من ما يستحق الاقتباس لا احتجت الي كتاب بحد ذاته لا يمكن نقاشه في محاورة فيسوكيه قصيرة كهذه. 

اخيرا ، على المرور لو سريعا على لغة الرواية فرواية لا تسمو فقط بالمواضيع الحساسة التي تطرحها و انما باللغة الرائعة التي كتبت بها و لتدليل اتركم مع هذا المقطع القصير الذي يصف فيه الروائي  مشهد الغروب يقول الرواي : 
“  و انتشر دم المغيب فجأة في الأفق الغربي كدماء ملايين ماتوا في حرب عارمة نشبت بين الارض و السماء . و انتهت الحرب فجأة بالهزيمة و نزل ظلام كامل مستتب احتل الكون بأقطابه الأربعة ، و أضاع مني الحزن و الحياء اللذين في عينيها “ … 

الرواية بين يدي هي منشوره عن الدار الجيل اللبنانية و تقع ٢٠٠ صفحة. نشرت الرواية في طبعتها الاولى ١٩٦٦ . 
تقيمي الشخصي : ٩ /١٠

مرت  ١٢٢ يوما و ٢٥  كتابا ، القادم هو مجموعة قصصية بعنوان “ الجمجمة المهترئه “ للقاص العماني معاوية الرواحي. 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة للمجموعة القصصية أكابر لميخائيل نعيمة

قراءة لرواية خان الخليلي لنجيب محفوظ

قراءة لكتاب الهويات القاتلة لأمين معلوف