قراءة لرواية “ عائد الى حيفا “ للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني
ببساطة انها من اروع ما قرأت منذ شهور و قد لا اتجاوز اذا قلت انها هناك في قمة الادب العربي مع ثلاثية نجيب محفوظ ، و يوسف القعيد “ الحرب في بر مصر “ ، ابراهيم جبرا “ البحث عن وليد مسعود” و بالطبع “ رجال في الشمس “ لنفس الرائع غسان كنافي. رواية عبقرية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى و لن استطيع مهما اجتهدت هنا ايفائها لو شيء بسيط من حقها. انها تلخيص للروح الفلسطينية الجديدة بعد نكبة ١٩٦٧ التي كان عليها ان توجه نظرها الى صناعة المستقبل بدل من انتظاره من الخارج ، انها الدعوة النبيلة لترك البكائيات علي الوطن المسلوب و السعي لانتزاع الحق بالنار و الدماء ان اقتضاد الامر ، انها قصة انتقال الشعب الفلسطيني من المهاجر الى ثائر.
بلغة رائعة و اسلوب جميل ينقلنا غسان كنفاني الى سيارة فيات رمادية يقودها سعيد س مع زوجته صفيه على الطريق بين رام الله و حيفا بعد حرب حزيران ١٩٦٧ حين سمحت اسرائيل للعرب الفلسطينين بزيارة قراهم و مدنهم التي هجروا منها امعانا في اذلالهم ليشهدوا - حسب الدعوة الاسرائلية - الى اين وصلت تلك القرى تحت الحكم الصهيوني مقارنة بمكانة عليه في السابق. على مشارف حيفا يستعيد كل من سعيد س وصفية ذلك اليوم الحزين في نيسان عام ١٩٤٨ حين دوت مدافع الصهاينة من تلال الكرمل على الاحياء العربية و بدأ الهجوم المفاجأ علي حيفا.
بوصف غاية بالدقة و صورة سنيمائية مفجعه ينقلنا بها غسان كنفاني الى مشاهد ذلك اليوم الرهيب في شوارع حيفا حين حاول سعيد س العودة الي منزله في منطقة الحليصة بالمدينة المحاصرة وسط لعلعة الرصاص و دوي المدافع الذي وجد نفسه مدفوعا بالجموع الهاربة الي منطقة الميناء بينما كانت زوجته قد خرجت من بيتها باحثة عنه في الشوارع القريبة من منزلها الى انها تجد نفسها بعد لحظات ودون وعي مدفوعة بجموع الغفيرة في الاتجاه الشمالي للمدينة و في تلك اللحظة و بين الجموع الغفيرة تصيبها الصاعقة الكبرى التي تتمحور حولها الرواية يقول غسان كنفاني “ كم مضي قبل ان تتذكر ان خلدون الطفل مالزال في سريرة في الحليصة ؟ ليست تذكر تماما ، و لكنها تعرف ان قوة لا تصدق سمرتها في الارض ، فيما اخذ السيل الذي لا ينتهي من الناس يمر حولها و يتدافع على جانبي كتفيها و كأنها شجرة انبثقت فجأة في مجرى سيل هائل من الماء و ارتدت هي الاخرى تدافع ذلك السيل بكل قوتها “.
تعود الرواية الي حيفا عام ١٩٦٧ حيث سعيد و صفية يقفان امام بيتهما القديم ودون ادرك يندفعان الي البيت لتفتح لهما البيت عجوز سمينة. تستقبلهم العجوز في بيتهم الاسبق للتدور في ذلك المنزل مشاهد و احداث غاية في الروعة و الرمزية ـ لن اتحدث عنها بطبيعة الحال لان بها الكثير من spoillers - التي توصل بطل الرواية الي فكرة الرواية الرئيسية و هي ان “ الانسان في نهاية المطاف قضية “ و ان فلسطين التي خسرها العرب لا يمكن استعدتها بالعودة الي الماضي و محاولة استحضار الذكريات بل في صناعة المستقبل يقول غسان كنفاني علي لسان البطل “ عشرات الالوف مثل خالد ـ ابنه الذي ولد في المهجر و الي يسعى للالتحاق بالمقاومة ـ لا تستوقفهم الدموع المفلولة لرجال يبحثون في اغوار هزائمهم عن حطام الدروع و تفل الزهور، و هم انما ينظرون الى المستقبل ، و لذلك هم يصححون اخطائنا و اخطاءالعالم كله … “. هنا يعبر غسان كنفاني عن النقله الكبيرة في الحياة الفلسطنينة بين جيلين جيل الهزيمة و الانتظار و جيل الثورة و العودة التي انطلقت من اطلال الهزيمة.
باختصار انها رواية من اروع و اقسى ما قرأت في الادب الفلسطيني و ربما في الادب العربي بشكل عام ، دراما انسانية غاية في الصدق و الواقعية مع حوارت عميقة غاية في الاهمية. اكتفي بما قلته حول هذه الرواية العبقرية الصغيرة في الحجم و الكبيرة في المعاني و الرسائل.
الرواية بطبعتها الجديدة نشرت عن دار منشورات رمال بالتعاون مع مؤسسة غسان كنفاني الثقافية ضمن مشروهم لإعادة نشر كتابات الاستاذ غسان كنفاني . تقع الرواية في ٨٠ صفحة.
تقيمي الشخصي: ١٠/١٠
مر ١١٣ يوما و ٢٣ كتابا ، القادم هو رواية رشحت ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية بعنوان تمر الاصابع للكاتب العراقي محسن الرملي.
تعليقات
إرسال تعليق