قراءة لكتاب الرمال العربية لويلفرد ثيسجر
" وقد أدركت أنه وبعد كل هذه الأعوام وتحت الظروف المتغيرة، لا يمكن أن تظل علاقاتنا ـ يقصد ابن كبينة وابن غبيشة ـ كما كانت في الماضي. لقد كيفوا أنفسهم وفقا لهذا العالم العربي الجديد، وهو ما لم أستطع أن أفعله. و قد افترقنا قبل ذهابي إلى ابوظبي التي كانت آخر ما أزال الغشاوة عن عيني. يظل هذا الكتاب تذكارا لماض ولى ، وتحية لشعب كان رائعا"
من مقدمة الكتاب
لطالما اعتقدت أن لدى بعض الكتابات القدرة العجيبة في السيطرة على ذهن قارئها منذ البداية ، في مقابل كتابات تنفر القارئ من الصفحات الأولى ولا تستطيع استعادته ـ أي القارئ - مهما حاولت في ما بعد. ومع ويلفرد ثيسجر صاحب الكتاب الشهير "الرمال العربية " لم يطل الأمر كثيرا لأنفر من الكتاب و كاتبه فمجرد قراءة مقدمته التي أبدى فيها أسفه على التطورات التي شهدتها المنطقة خلال السنوات التي أعقبت اكتشاف النفط، وعلى اسفه على "شعب كان رائعا " من وجهة نظره، وعلى أصدقاء سابقين تغيروا للأسوء من وجهة نظرة أيضا بعدما التحقوا بركب الحضارة فأصبحوا يسكنون في بيوت اسمنيته ويركبون السيارات ويولمون له في خيامهم الكبيرة. لقد استكثر علينا الكاتب ومنذ صفحات كتابه الأولى أن يكون لنا شيئا من حاضر ومستقبل هذا العالم، فاستكثر علينا امتلاك ما أصبح من مسلتزمات العصر كالبيت والسيارة وربما يستكثر علينا كذلك الصحة والتعليم، كان يريد لنا على ما يبدو أن نبقى حفاة عراة، يموت أغلبنا من أسهل الأمراض، ويعيش الكثير منا على الغزو والسرقة ـ كما يقول بعد ذلك ـ بسبب شظف العيش الذي خلفه سلاطين ظلاميين كانوا يقبعون تحت سلطة الاستعمار الذي كان هو جزء من مؤسسته.
علي الاعتراف مسبقا ايضا أنه لا يمكنني تقبل القصة الاستشراقية الأسطورية لمغامرات الرجل الأبيض الذي يذهب "ليكتشف المجهول في مناطق الشرق الغامض" على الرغم من أنها مناطق لها شعب ولها تاريخ عريض مكتوب ومسجل عبر مئات السنين ورغم أنه في " اكتشافاته " تنقل عبر طرق مهّدها له أهل البلاد وصحبة فيها مرشدين منها. ففي هذا الكتاب يأتينا ويلفرد ليدعي أنه أول المكتشفين لجبال ظفار والربع الخالي بالواحات المتنتشرة فيه، بالإضافة إلى أنه أول المكتشفين لداخلية عمان ومناطقها، حيث أن المنطق الاستشراقي والاستعماري لهؤلاء الكتاب لا يعترف بوجود المناطق وسكانها ما لم يلمسها ويمر خلالها ويكتب عنها ويضعها في خرائطه الرجل الأبيض العظيم.
يكتب و يلفرد ثيسجر بالأسلوب الاستشراقي نفسه واللغة المتعالية نفسها ورغم محاولته إضفاء شيء من الرومنسية و الموضوعية المزيفة المعهودة للكتاب الإستشراقيين إلا أنه لا يخرج عن الصورة النمطية المعهودة للشرق الساحر المملؤء بالغرائب والمتناقضات، والذي يكتب عنه وعن أهله بمزيج يجمع بين الإعجاب والسخرية في مقابل الغرب العلمي المادي الذي شغلته المادة عن اكتشاف روحه. كما لا تخرج صورة العربي في كتابات ويلفرد عن الصورة النمطية التي كتب بها المستشرقون والرحالة وإن اختلفت المدن والمناطق التي يزورونها، فالعربي البدوي مع ويلفرد يجمع بين المتناقضات الكثيرة بين بين الكرم والشهامة في استقبال الضيوف و الجشع و التزلف الدائم للإستفادة من مال الرجل الأبيض. كما تجمع أيضا بين الشجاعة والإقدام في مواجهة المخاطر والسذاجة المفرطة والتهور والغباء التي كان لا بد من وجود الرجل الأبيض ليشذبها ويوجهها التوجيه الصحيح.
كما أن معظم المناطق والقبائل التي زارها الرجل الأبيض كانت بائسة وجائعة أعياها المرض وكان هو محور الكون فيها، فهو الذي يشفي المرضى ويمنح الدواء الصحيح في مقابل الشعوذة العربية ، وهو مصدر الرزق و الثروه في الأماكن التي يزرها فالجميع دون استثناء إما متعصبون أجلاف يريدون نهب ما يملك فيحاولون قتله لأنه المسيحي الغريب أو هم مجموعة من المتزلفين الجوعى الذي يمنحهم العون من أجل البقاء في مقابل خدمته. وفيها لا يخرج ويلفرد ايضا عن الصورة النمطية التي ما زالت تشكل وجهة النظرة الغربية للشرق حتى الآن فنحن إما إرهابيين معادين للآخر وإما جوعى متزلفين أعياهم المرض والفقر والجهل، نحتاج للغرب ليخرجنا من بؤسنا و ينقذنا من أنفسنا. ولذلك لم يكن غريبا وفي تأكيد لطبيعة الاستشراقية لهذا الكتاب أن يتشابه العنوان الذي يحمله مع عنوان الذي تحمله ترجمة كتاب ألف ليلة وليلة صاحب التأثير الكبير على تشكيل الصورة النمطية للشرق الغريب و المدهش في الوعي الغربي Arabian night & Arabian Sand .
حتى وحين استعرض ويلفرد سريعا التاريخ العربي العظيم منذ قيام الحضارة الإسلامية، لم يتسنى له الا الإشارة لذكر أن معظم من ساهم في إثراء الحضارة لم يكونوا عربا بل لم يكونوا مسلمين، فالعرب الأجلاف الجهلة لم يخلقوا أي حضارة خارج الصحراء بل لا يصلحون لصناعة أي حضارة:
" لقد تأثرث الثقافة الإسلامية إلى حد بعيد بالأفكار اليونانية، وقام العرب بترجمة كل ما تيسر من المؤلفات اليونانية إلى لغتهم العربية …. بل قدمت إسهامها الخاص في حضارة العالم على الأصعدة المعمارية والأدبية والفلسفية والطبية والتاريخية والفلكية والفيزيائية و الطبية. و لقد كان القليل من الشخصيات المثقفة في هذا المجتمع عربا، وكثير منهم لم يكونوا حتى من المسلمين وإنما كانوا يهودا و مسحيين"
يتناول كتاب الرمال العربية الذي ينتمي لأدب الرحلات قصص تنقلات الكاتب في الصحراء العربية مع مجموعة من الشبان أو ربما الأطفال فبعضهم لم يتجاوز السادسة عشر ولكن هذا لم يمنع رجل الحضارة في أخذهم معه في أخطر رحلاته دون أي إحساس بالمسؤولية الإنسانية اتجاه هؤلاء الفتيان، مستغلا فقرهم والضنك الذي يعيشونه وحاجتهم إليه بطريقة مَرَضية في بعض الأحيان. كل هذا في سبيل أن يعود إلى بلاده بعد ذلك فيكتب ويتفاخر، ولسانه حاله يقول أنا الذي اكتشفت الربع الخالي وأنا الذي تنقلت بين البدو المتخلفين، ويستعرض بعدها مع أصدقائه المتحضريين صور هؤلاء الهمج في جلسات الشاي وشرب البراندي في المكاتب الإنجليزية بعد الظهر، أو لتعرض علي الجمهور العام في المتاحف. ولعل هذا ربما كان إحدى مبررات الحزن والألم التي أصابت الكاتب عندما وجد أصدقاؤه في الثمانينات وقد أصبحوا يمتلكون السيارات، وتغيرت حياتهم فلم يعودوا في حاجة إليه وإلى ريالاته القليلة التي يتفضل بها عليهم في ضجر في كثير من الأحيان . فالعربي " الرائع " من وجهة نظر ويلفرد هو العربي الجاهل والجائع الذي يحتاج إلى عطف الرجل الأبيض عليه.
عودا إلى موضوع الكتاب ، فكما أسلفت يحكي الكتاب على لسانه صاحبه قصة تنقل الكاتب خلال رحلته بين عمان وحضرموت وظفار بالإضافة إلى عبوره الربع الخالي مرتيين مرة من الجنوب عبر مقشن وعمان ومرة من الشمال عبر حضرموت. وفي الرحلتين معا ادعى الكاتب أنه أول المكتشفين لهذه المناطق بالرغم من انه استعان بمرافقين من العرب ليرشدوه الطريق الصحيح، ويتوقف أمام آبار حفرها الرحالة من أهل البلاد منذ مئات السنين، ولم يكن دوره في كل القصص التي كتبها غير شرب القهوة وتحريك البوصلة وكتابة اليوميات ومشاهدة وتوثيق الغرائبية العربية بالإضافة إلى استغلال لون بشرته في الوصول إلى مشايخ المناطق هنا وهناك. استعرض الكاتب كذلك الصراعات القبيلية التي كانت تعصف بالمنطقة المهملة على حدود الربع الخالي وكذلك حاول تصوير الحياة اليومية للبدو بكل تفاصيلها.
الأكيد أنني في هذا المقال لن أتمكن من تقديم قراءة نقدية وموضوعية لما كتبه ويلفرد، والغريب أني بعد أن انتهيت من قراءة الكتاب بحثت في محرك البحث عن أي قراءة نقدية لما كتبه ويلفرد فلم أجد إلا مقالا سريعا في أحد المواقع، على الرغم من الشهرة الواسعة للكتاب و الحفاوة الكبيرة التي استقبل بها من قبل الغرب والعرب، وهو أمر حقا لا أفهمه. وعليه فإني أتمنى من ذوي الاختصاص تقديم دراسة نقدية لكتابات ويلفرد سواء من ناحية الحقائق التاريخية أو الاجتماعية على ضوء الدراسات المتخصصة في نقد كتابات المستشرقيين والرحالة الأوروبين. أخيرا، علي تسجيل أن الإيجابية الوحيدة للكتاب، بالإضافة لشخصية " ابن كبينة " الرائعة، أنه أعادني إلى كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد الذي قرأته قبل أربع سنوات، والذي ناقش في جزء منه كتابات الرحالة المستشرقين الذين زاورا سوريا ومصر في القرنيين الثامن والتاسع عشر و التي تتقاطع افكارهم و انطبعاتهم مع ويلفرد ثيسجر بشكل يدعو للدهشة.
تقيمي الشخصي: ١٠/٥
يقع الكتاب في ٣٤٥ صفحة ، بين يدي الطبعة العربية العاشرة ٢٠١٥ عن موتيفيت للنشر.
القادم دمية النار لبشير مفتي
حمود السعدي
لمتابعة الجديد ارجو فتح حساب الأنستجرام: hamoodalsaadi
لمتابعة الجديد ارجو فتح حساب الأنستجرام: hamoodalsaadi
تعليقات
إرسال تعليق