قراءة لرواية السمان والخريف لنجيب محفوظ
" الشتاء جميل ولكن القاهرة غير مستعدة له "
" لئن نبقى بلا دور في بلد له دور خير من أن يكون لنا دور في بلد لا دور له "
" ألا تخشى على الحضارة؟ من حسن الحظ أننا لم ندخل الحضارة بعد، فما خوفنا من البلل "
هذا هو الكتاب رقم سبعة عشر الذي أقرؤه لنجيب محفوظ ولعل كلامي عنه وعن كتابته خلال هذه السنوات قد صار مكررا، فقد صار مكرورا مثلا قولي أن من أصعب المواقف التي أواجهها في كتابة تعليقي عن ما أقرا - منذ بدأت الكتابة قبل ثلاث سنوات- هي الكتابة عن أعمال نجيب محفوظ إذ أنني أعلم أنه لا يمكني أبدا وبأي حال من الأحوال إيفاؤه في ما أكتبه هنا شيئا ولو بسيطا من حقه، وأقصى ما أقدر أن أقوم به هنا هو محاولة توصيل شيء من المشاعر التي تختلجني وأنا أقرأ أعمال هذا الكاتب المبدع. و لن يكون غريبا قولي حتى بعد أن قرأت سبعة عشر كتابا لنجيب محفوظ موزعة بين الروايات وعشرات القصص القصيرة أن هذا الأديب العظيم ما زال يفاجئني في كل عمل أقرؤه له، فأجد في كل عمل شيئا جديدا يختلف عن ما سبق سواء في مواضيعه التي يطرحها أو شخصياته وحركاتها التي وإن كانت تأرخ للحياة السياسية والتغيرات الاجتماعية التي شهدتها مصر خلال القرن العشرين فإنها ذات طابع عالمي وإنساني تضع القارئ أمام أسئلة إنسانية غاية في الأهمية وتتعمق في سبر أغوار النفس الإنسانية بحيادية ودون محاكمة لأفعالها وانزلاقاتها.
في رواية " السمان والخريف " التي نشرت لأول مرة عام ١٩٦٢ يقدم لنا نجيب محفوظ رائعة أدبية لا تكفي كل كلمات الإطراء لحصر جماليتها، وعلى منهج روايات أو روائع الستينات " اللص والكلاب " و " ثرثرة فوق النيل " يستمر نجيب محفوظ في نقد تجربة ثورة ١٩٥٢، فكما تتناول رواية "اللص والكلاب " اغتراب المواطن المصري البسيط بين عصرين، وكما تقدم "ثرثرة فوق النيل " غربة النخبة المثقفة في مجتمع ما بعد الثورة، تتناول رواية السمان والخريف الغربة والصدمة والإحباط الاتي أصابت الحزبين الذين شكلوا الحياة السياسية المصرية في العهد الملكي بعد أن أقصتهم دولة الثورة وحيدت أدوارهم، و لعله من جيد لمن أحب أن يقرأ لنجيب محفوظ ربما قرأت هذه الروايات معا إذ تتميز الروايات الثلاثة بأنها قصيرة جدا على خلاف روايات الخمسينات والأربعينات.
تدور أحداث الرواية حول عيسى الدابغ وهو حزبي شاب وفدي ناضل كثيرا حين كان الحزب رمزا للنضال الوطني إلا أنه و مع استلام الحزب للسلطة انظم إلى جماعات الفساد والإستغلال والرشاوي التي صبغت الحزبيين المصريين الذين استغلوا وصول أحزابهم للسلطة للوصول إلى أعلى المناصب في وزارتهم ثم سخروا تلك المناصب لملء جيوبهم ومحابات أصدقائهم الحزبيين:
" كنا حزب المثل الأعلى ، حزب التضحية والفداء، حزب النزاهة المطلقة، حزب " كلا ثم كلا " أمام المغريات والتهديدات، كنا كذلك حتى قبيل ١٩٣٦، فكيف أدركت روحنا الشيخوخة؟ كيف تدهورنا رويدا رويدا حتى فقدنا جميل مزايانا؟ و ها نحن نقلب أيدينا في الظلام يملؤنا الشجن والشعور بالإثم، فواحسرتاه …! "
تبدأ الرواية بمشهد حريق القاهرة الكبير الذي حدث على إثر الاحتجاجات الغاضبة على أحداث مجزرة الشرطة في منطقة القناة، حيث يضعك نجيب محفوظ بلغته الرائعة وقدرته السينمائية العالية في قلب الأحداث الرهيبة الحمراء التي صبغت يوما من أغرب أيام الحياة المصرية المعاصرة وأكثرها تأثيرا. على إثر هذه الأحداث تسقط وزارة الوفد وينقل عيسى من مكتب الوزير إلى غرفة الأرشيف وهو أمر تعود عليه مع أي تغير حكومي فيبدأ في الإنتباه لحياته الشخصية حيث تعقد خطبته على بنت من بنات البشاوات والمتنفذيين وتبدو الحياة مفتوحة أمامه للمجد عند أقرب عودة لوزارة الوفد. إلا أن التاريخ يخذله هذه المرة فتحدث الثورة المصرية وتبدأ حملة التطهير للفاسدين ليجد نفسه أحد ضحايا هذه الحملة لتورطه في قضايا فساد كبيرة حيث كان يتلقى الرشاوي من العمد في مقابل تسهيلات يمنحها لهم.
يحال بعدها عيسى للتقاعد ويفقد مركزه و نفوذه وحتى خطيبته ويرفض التأقلم في الوضع الجديد على خلاف أصدقائه الثلاثة الذي ينظم اثنين منهم إلى الركب الجديد من خلال التزلف للسلطة الجديدة ويتجه واحد منهم إلى التصوف في محاولة منه للهروب من الواقع الذي يعيشه. على أن عيسى يرفض كل عروض الاندماج في الحياة الجديدة التي وجد فيها نفسه وكل من معه من قيادات المرحلة السابقة أمام محاكم الفساد وفي السجون أو محالين للتقاعد المبكر ليبدأ بعدها عيسى مرحلة الانحدار والسقوط شيئا فشيئا رغم اقتناع عقله بعدالة قضية الثورة المصرية ونجاح سياستها (إلى عام ١٩٦٢) إلا أنه لا يتسطيع بقلبه تقبلها.
" أي مصيدة وقعنا فيها ! إنه التخبط والتمزق والعذاب، إما أن نخون الوطن وإما أن نخون أنفسنا، ولكن الهزيمة في هذة المعركة تعني بالنسبة لي شيئا هو أفضع من الموت … "
يطرح نجيب محفوظ من خلال شخصيته الرئيسية ورغم الخصوصية المصرية، أسلئة فلسفية ما زالت شائكة و حاضرة في واقعنا المعاصر حول الإغتراب في الوطن حين يفشل الوطن في استيعاب مواطنيه ويفشل الإنسان في تقبل الاندماج في وطن لا يستمع إلى رأيه وصوته ولا يمنحه الحرية في التعبير عنه وهي أسئلة ما زالت حية ولعلها من الأسباب التي أدت إلى فشل الربيع العربي حيث فشل الثوار في التعامل مع السلطات السابقة و استيعابهم.
تجمع الرواية بين النقد السياسي للعصرين مختلفين وجيليين مختلفين وقصة انسانية واقعية تراجيدية لصراع الإنسان مع اليأس و الكآبة والفشل بالإضافة إلىال حياة في حالة انكار دائما لحركة التاريخ وعدم الاعتراف أو مواجهة أخطاء الماضي غير أن نجيب محفوظ يأبى إلا أن يمنح شخصيته المركبة رغم كل أخطائها ورغم الإنحدار التي تصل إليه شيء من الأمل في نهاية المطاف حيث يقدم لنا في النهاية مشهد غاية في الروعة والرمزية حين يقف البطل أمام تثمال سعد زغلول في أحد ميادين الإسكندرية.
الرواية بطبعتها الجديدة نشرت عن دار الشروق ضمن مشروعهم لإعادة نشر أعمال نجيب محفوظ ، الطبعة الأولى منشورة ١٩٦٢، والطبعة الأولى لدار الشروق منشورة ٢٠٠٦ ، بين يدي الطبعة السادسة ٢٠١٧م. تقع الرواية في ١٤٩ صفحات.
تقيمي الشخصي: ١٠ /١٠
القادم رواية الشيخ و البحر لإرنست همنغواي
حمود السعدي
Instagram account: hamoodalsaadi
حمود السعدي
Instagram account: hamoodalsaadi
تعليقات
إرسال تعليق