قراءة لرواية وردة للأديب المصري صنع الله ابراهيم



لطالما كنت من المعتقدين أن الرفاه والحداثة التي نعيشها في أيامنا هذه في عمان تعود -إلى جانب اكتشاف النفط- إلى سببين رئيسيين كان لهما الأثر الكبير في التغيرات التي عاشتها السلطنة بعد عام ١٩٧٠، وهما توحيد عمان وإنهاء الإمامة عام ١٩٥٨ ، وثورة ظفار اليسارية التي كان لها الأثر الكبير في دفع المستعمر الإنجليزي للإستجابة إلى مطالب الشعب العماني، وإحداث التغيير الكبير في ٢٣ يوليو، وذلك ليجنب المعسكر الغربي الهزيمة التي مني بها في مصر واليمن الجنوبي لكي لا يتكرر السيناريو الأحمر في عمان ذات الموقع الإستراتيجي المطل على المنفذ الرئيسي لطرق تجارة البترول في الشرق الأوسط. الأمر ضاعف حماستي لقراءة الرواية التي سمعت عنها الكثير ونصحني بقراءتها العديد، ولم تكن بالطبع النصيحة خاطئة فقد وقفت معها أمام عمل كبير يصعب حصر جمالياته في مقال سريع. 

في روايته الرائعة " وردة " يقدم لنا صنع الله ابراهيم وهو اليساري العتيد سيرة الثورة المنسية والمغيبة من كتب التاريخ  "ثورة ظفار ". وقد يكون من الظلم أن يطلق لفظ رواية فقط على العمل الموسوعي الكبير الذي قدمه صنع الله ابراهيم  فهو أقرب للعرض والدراسة التاريخية التي ورغم تركيزها على الخصوصية العمانية إلا أنها استعرضت الثورات اليسارية في العالم أجمع فأخذتنا في رحلة ملحمية كبرى من ثوار الفايكونج في شوارع هانوي في الفيتنام إلى جيفارا و كاسترو في كوبا وبولنيا ومن عبدالناصر في القاهرة إلى السلال والسالميين في اليمن، وعرجت كذلك على بغداد ودمشق في عصر الثورات  والانقلابات وأخذتنا مع الثورة الفلسطينية ونجومها الكبار في صراعاتهم في شوارع بيروت وعمّان وفلسطين المحتلة. 

قدم لنا صنع الله ابراهيم المد اليساري في العالم بإيجابياته و سلبياته في فترة الستينات، وهي فترة من أهم فترات تاريخنا الحديث ومهما اختلفنا أم اتفقنا مع النتائج التي ترتبت في السيتنات والتي يعتبرها البعض منا كارثية - ظلما من وجهة نظري- إلا أنه لا يمكن أن ينكر جاحد أنها فترة من أكثر فترات تاريخنا الحديث ترابطا و وحدة وعزة كانت فيها الجماهير من المحيط إلى الخليج متوحدة في مطلب الوحدة والكرامة والحرية لكل الشعوب، مرحلة اختفت فيها القطرية والانعزال والطائفية أمام شعار الحرية والاستقلال، مرحلة شهدت استقلال الجزائر واليمن والخليج وزرعت بذرة التنمية والعدالة الإجتماعية في معظم الدول العربية وإن تم التلاعب فيها فيما بعد.   

تدور أحداث الرواية باختصار حول شخصية شهلا ـ التي ستعرف لاحقا باسمها الحركي وردة ـ وأخوها يعرب والتحولات التي سيعيشونها في فترة من أكثر فترات تاريخنا المعاصر تدفقا وحركة. تتحرك مسار الرواية في اتجاهين: الأول هو قصة الكاتب المصري اليساري رشدي في زيارته لمسقط في شتاء عام ١٩٩٢ وقراءته للتحولات التي تعيشها السلطنة في عصر النهضة، ليعود بالمقارنة إلى أصدقاء عرفهم في القاهرة عام ١٩٥٧ هم ـ شهلا ويعرب ـ وحديثهم عن عمان الغارقه في الظلام. يبدأ بعدها رشدي في البحث عن الأصدقاء السابقين الذين لم يلتقي بهم منذ نهاية الخمسينات وخصوصا شهلا التي طالما حمل لها مشاعر خاصة. تحمل الصدف الغريبة الى رشدي يوميات كتبتها شهلا بين العام ١٩٦٠ وعام ١٩٧٥م من بيروت إلى عدن، ثم من جبال ظفار إلى موسكو حتى الربع الخالي وهي المسار الثاني للرواية، وفي مزج رائع تتحرك الرواية بين يوميات شهلا - وردة - وقصة بحث رشدي عن الحقيقة في ما جرى لشهلا ويعرب بعد ثلاثين سنة على ذلك اللقاء، لتتكشف لرشدي من خلال الأحداث خيبات الماضي وخيوط مؤامرات الحاضر.  

يرسم صنع الله ابراهيم ـ وهو أمر ليس غريبا على صاحب "شرف " - شخصياته حتى الثانوية منها بصورة احترافية بديعة لكل منها ماضيه الذي ينعكس على حاضره ولكل منها مساره الذي يتحرك فيه خلال حركة الرواية ويتوافق مع طبيعة الأمور و ما يمر عليه من أحداث. ولعل النقد الوحيد الذي أحمله على الرواية هو العلاقة التي ستحدث بين رشدي الرجل الستيني ووعد ابنة شهلا - وردة - وهي علاقة كانت مفاجئة وخارجة عن السياق وغير مبررة ولعلي أتحايل على النص فأحاول تأويلها على أنها مجرد تخيلات مر بها رشدي بعد يوم عاصف.     


أما لغة الرواية فتتميز بالبساطة فصنع الله ابراهيم يكتب بالأسلوب السهل الممتنع، إذ تخلو الرواية من التكلف والمبالغة في التصنع على أنها اعتمدت في مقابل ذلك على كمية كبيرة من البحث والقراءة مكنت الكاتب -وهو المصري- من تشكيل صورة المجتمع العماني بمختلف أطيافه وكامل تناقضاته. كما تمكن الكاتب باقتدار قل نظيرة أن يكتب بلسان المرأة، فعندما أقرأ يوميات ـ شهلا - لم أحمل أدنى شك في أنها هي كاتبة تلك السطور وليس الروائي الرجل، بل وكم تمنيت حقا أن تكون الشخصية حقيقية، وأنني حقا اقرأ مذكراتها التي وقعت في يد الروائي صدفتا . 

اختتم صنع الله ابراهيم الرواية بتقديم نقد للتجربة اليسارية في ستينات القرن الماضي من الانفرادية الناصرية والنكسة الكبرى عام ١٩٦٧،  إلى الانقلابات الدموية التي صبغت الحياة السياسية في العراق وسوريا وليبيا والسودان ثم صراعات الأخوة في اليمن الجنوبي ولبنان وفلسطين التي انقلبت فيها شعارات اليسار والوحدة والحرية إلى مجرد أغلال لتطويق الشعوب تحايل فيها ثوار الماضي على شعوبهم التي آمنت بهم و وثقت بهم حيث اصبحت تلك الشعارات مجرد أدوات جوفاء للاستئثار بالسلطة وجمع المال. أما في عمان فكان للانقلاب الذي قام به الثوريين أصحاب الاتجاه الشيوعي اللينيني على التوجه القومي العام وإقصاء رفاق الكفاح، ثم محاولة حرق مراحل التغير وفرض النظرية المادية على الشعب العماني البسيط بالقوة دون تدريج . كل هذا بالإضافة الى عمليات التصفية والقتل التعفسية، كلها عوامل أدت إلى نفور قبائل الجبل من الثورة وعدم تعاطف العمانيين معها، ثم انحسارها والقضاء عليها بعد ذلك. 

تقيمي الشخصي: ٩.٥/١٠ 
تقع الرواية في ٤١٣ صفحة ، الطبعة الرابعة ٢٠١٢ عن دار الثقافة الجديدة. 
القادم الرمال العربية ويلفرد ثيسجر (مبارك بن لندن)      

حمود السعدي 

لمتابعة الجديد ارجو فتح حساب الأنستجرام: hamoodalsaadi

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة للمجموعة القصصية أكابر لميخائيل نعيمة

قراءة لرواية خان الخليلي لنجيب محفوظ

قراءة لكتاب الهويات القاتلة لأمين معلوف