قراءة في رواية "الشحاذ" لنجيب محفوظ
هذه هي القراءة الخامسة والعشرون لي
لأعمال نجيب محفوظ، كتابات تنوعت بين القصص القصيرة والروايات، وكما في كل مرة، لم
يخيّب نجيب محفوظ ظني. ليس فقط ببراعته اللغوية وبنائه الدرامي، ولا بجرأته في
تناول المواضيع، بل في قدرته الفذة على التجديد والمفاجأة. بعد كل هذه القراءات،
ما زلت أجد ما يدهشني في كتاباته، وما زالت كل رواية تحمل رؤيتها الخاصة وزاويتها
المميزة، حتى حين تتشابه المواضيع. قراءة نجيب محفوظ أشبه بدخول عالم لا يشبه غيره،
تجربة أدبية وإنسانية يصعب أن تتكرر.
تتناول الرواية موضوع الوجودية،
وتطرح على قارئها أسئلة كبرى حول معنى الحياة، وجود الإنسان، الله، والعبث الكامن
خلف تفاصيل الحياة اليومية. تحكي الرواية قصة "عمر"، محامٍ ناجح من حيث
المظهر الخارجي: مهنة مرموقة، أسرة مستقرة، وحياة مريحة. لكنه رغم كل هذا، يصاب
باكتئاب حاد، مجهول السبب، يدفعه إلى التخلي عن كل شيء في رحلة بحث عن معنى وجوده
وعن "السعادة الخالصة" كما يتخيلها.
تفتتح الرواية بمشهد بسيط: صورة
معلقة على جدار غرفة الانتظار في عيادة طبيب، يزوره "عمر" باحثًا عن
تفسير لحالته. ورغم أن هذه الصورة لا تعود لاحقًا كعنصر محوري، فإنها ترمز بعمق
للحالة النفسية التي يمر بها البطل. وهنا تتجلى براعة نجيب محفوظ، إذ لا يفرض
الرمز على القارئ، بل يمرره بلطف، معتمدًا على قدرة المتلقي على الربط والتأويل.
بعكس كثير من أعمال محفوظ التي ترتكز
على الرمزية وتخفي أفكارها خلف حبكات معقدة، تأتي "الشحاذ" أكثر مباشرة
ووضوحًا، حيث تنقل أفكارها الفلسفية من خلال حوارات عميقة ومكثفة بين الشخصيات.
هذه الحوارات، التي تشكل القسم الأكبر من الرواية، مكتوبة بلغة آسرة، وتنقل
التناقضات النفسية والتمزقات الوجودية التي يعاني منها "عمر"، وتمنح
الرواية طابعا فلسفيا.
"الشحاذ" ليست رواية لإيجاد الاجابات،
بل رواية لطرح الأسئلة. إنها وقفة طويلة مع الذات، دعوة إلى التأمل، حيث تطرح تلك
الأسئلة التي كثيرًا ما نخاف مواجهتها. إنها من تلك الروايات التي تترك أثرها
طويلًا في النفس، وتدفع القارئ للتفكير لا في مصير أبطالها فحسب، بل في مصير القارئ
نفسه.
تقيمي
الشخصي:9/10
بين يدي
الطبعة السادسة لدار الشروق 2016، الرواية بطبعتها الأولى نشرت عام 1965. تقع
الرواية في 150 صفحة.
تعليقات
إرسال تعليق