قراءة للمجموعة القصصية أكابر لميخائيل نعيمة
هذه هي تجربتي الأولى مع واحد من عمالقة الأدب العربي الحديث في المهجر الذي كان حاضرا في معظم كتب الأدب العربي في المدرسة منذ الصف العاشر، إن لم تخني الذاكرة حيث كان اسمي جبران خليل جبران ومخائيل نعيمة حاضرة دائما في كل الكتب المدرسية كمثال دائم عن واحد من أوجه وأهم كتابات المهجر الذي كان لها التأثير الكبير والبصمة النوعية على حركة الأدب العربي الحديث. لهذا كانت لتجربة قراءة أكابر لميخائيل نعيمة طعم فريد أعادني لبضع لحظات لمقاعد المدرسة وكتاب المؤنس الجميل.
أكابر هي مجموعة قصصية تتكون من ثلاثة عشر قصة تتنوع في مواضيعها وتتراوح في طولها بين الخمسة والعشر صفحات وهي بالترتيب: أكابر، مصرع ستوت، كسار الحصى، أم وليست بأم، عابر سبيل، عدو النساء، عصفور وإنسان، صادق، موعدان، على الله، هدية، علبة كبريت وذنب حمار.
كما يتضح من العنوانين تتميز المجموعة القصصية بأسلوبها الساخر الجميل البعيد عن التعالي مع بساطة في اللغة والطرح على الرغم من عمق المواضيع التي تتناولها حيث أنها تركز في مواضيعها وشخوصها على هموم وقضايا البسطاء في المجتمع اللبناني خصوصا والعربي بشكل عام. فمعظم الشخوص تقريبا من المحرومين من الغناء والتعليم حيث أن أغلب القصص تحدث في القرى الريفية المهمشة، وأبطالها غالب ما يكون من مهمشي القرية أصلا. هناك أيضا لمسة من الحنان والعاطفة التي يحملها ميخائيل اتجاه شخصياته الأمر الذي يقربها كثيرا من القارئ ويجعله يشكل ودون إدراك شيء من التعاطف والعلاقة مع تلك الشخصيات البائسة الأمر الذي يضاعف من التأثير النفسي لنهايتهم التي غالبا ما تكون إما طريفة أو مؤلمة جدا.
كأي مجموعة قصصية تتمايز مستويات القصص في هذه المجموعة ولكنها وعلى خلاف الكثير مما قرأت سابقا لا تتمايز في مستوياتها أو جمالها بل لعل هذه المجموعة الأولى التي أقرؤها ـ وقد قرأت الكثير من نجيب محفوظ إلى معاوية الرواحي ـ التي تستمر بنفس المستوى الفني واللغوي الجميل والمريح إن صح الوصف. على أنه ولا بد مع أي مجموعة قصصية ان تجذب الانتباه بعض القصص أكثر من أخرى ويعود في الغالب هنا للموضوع المطروح فالصراعات الطبقية والنقد الاجتماعي غالبا ما تكون المواضيع التي تجذب انتباهي أكثر من غيرها، ولذلك فقد كانت قصتا "أكابر" و"كسار الحصى" الأقرب إلى قلبي.
الأولى – الأكابر - تحكي عن صراع الفلاحين مع الملكيات الخاصة والإقطاع التي لطالما استهلكت وأذلت الفلاحين في العالم والثانية – كاسر الحصى ـ هي قصة نقد اجتماعي قاسية تتناول موضوع غاية في الحساسية في العالم العربي وهو ما يعرف بـ "جرائم الشرف". هناك أيضا قصة طريفة بعنوان "صادق" وهي تحكي عن مأساة شخص بسبب صدقه ورغم أن الفكرة قد يكون فيها شيء من الكليشيه أو التقليد إلا أن أسلوب ميخائيل نعيمة والتقلبات المختلفة غير المتوقعة التي يأخذ فيها قارئه وشخصياته جعل منها قصة جميلة وبنهاية متميزة جدا.
لفت انتباهي أيضا تركيز مخائيل نعيمة في قصتين من المجموعة على الوحدة والحنين إلى الأبوة والأمومة فقصة " أم وليست أم" تحكي قصة امرأة تعلقت بصورة مرضية برضيع جارتها تعلق رهيبا حين ترغمها الجارة على الاعتناء به يوما حيث تضطر في غمرة صراخ الرضيع إلى إلقامه ثديها الأمر الذي يفجر فيها كل مشاعر الأمومة رغم أنها كانت سابقا تكره الأولاد، وقصة "كاره النساء" وهي تحكي قصة شاعر عاش طول حياته وهو عاف عن النساء إلا أن منظر فتاة تزف إلى زوجها فجأة يبعث في نفسه حنينا غريبا للأبوة فينفجر في نوبه من البكاء الهستيري.
ولعل مخائيل نعيمة صب في هاتين القصتين شيئا من حياته الشخصية كونه لم ينجب أو يتزوج في حياته الأمر الذي أضفى على القصتين رغم الغرابة شيء من الواقعية المؤلمة وهو أمر جعلني ـ وأنا أب حديث ـ أقدر نعمة الأبوة الجميلة التي يفتقدها الكثيرين في هذا العالم.
ختاما، إن كنتم أيها الأصدقاء تبحثون عن ثلاث ساعات من المتعة والراحة النفسية فعليكم بمجموعة ميخائيل نعيمة "أكابر". ولا أعلم لماذا لا أجد تعبيرا أنسب من "الراحة النفسية" في وصف شعوري اتجاه المجموعة القصصية إلا أنها حقا مريحة للنفس فعلا حيث وجدتني والابتسامة لا تفارقني طوال الوقت وحتى الآن وأنا استذكر ما قرأت واكتب عنه أجد الابتسامة حاضرة. كانت هذه تجربتي الأولى مع هذا الأديب العظيم وهي بكل تأكيد لن تكون الأخيرة، لروحك السلام يا ناسك الشخروب فقد منحتني شيئا منه.
المجموعة بطبعتها الجديدة نشرت عن دار نوفل، الطبعة الأولى منشورة ١٩٥٦، والطبعة الأولى لدار نوفل منشورة ٢٠١٥، بين يدي الطبعة الواحدة والعشرون ٢٠١٨م. تقع المجموعة في ١٢٢ صفحة.
تقيمي الشخصي: ٩.٥ /١٠
القادم حيث الصباح والمساء لنجيب محفوظ.
تعليقات
إرسال تعليق