قراءة للمجموعة القصصية "عالم ليس لنا" لغسان كنفاني


  

لطالما اعتبرتُ أن قراءة أي من أعمال الكاتب والمناضل الفلسطيني الكبير غسان كنفاني تجربة فريدة ومغامرة أدبية وإنسانية ثرية، يلتقي فيها اليأس بالأمل، والشقاء بالعزيمة. ولم تختلف هذه المجموعة عن غيرها، فوجدتها تبعث في النفس الكثير من الهواجس، وتطرح عليها الكثير من الأسئلة: عن الإنسان والمجتمع، عن المهمشين على اختلاف مشاربهم، عن النزعة الإنسانية نحو العدالة، نحو الحرية، نحو عالم أفضل يكون لنا جميعًا، وليس عالمًا كالذي كُتب في هذه القصص وما زلنا نعايشه اليوم، حيث أصبح بحق، بالنسبة للفلسطينيين بشكل عام، وفي غزة والضفة بشكل خاص، عالمًا ليس لهم .

تتكون المجموعة القصصية، التي كُتبت بين عام 1959 و1965، من خمس عشرة قصة، ترتكز في أغلبها على قصص المهمشين والمحرومين في عالمنا. ورغم أن القصص لا تطرق موضوع القضية الفلسطينية بشكل مباشر، باستثناء قصتها الأخيرة "العروس" ، إلا أن قضية اللاجئين والهجرة والحرمان حاضرة وبقوة في القصص، من خلال رموز رسمت بحرفية بالغة: من العصفور المحبوس بين الجدران الحديدية، إلى الرجل الذي أصبح لا يرى نصف العالم، فلا يستطيع أن يرى العالم إلا من وجهة نظر واحدة، أو قصة البدوي مع الصقر والغزال. وعلى الرغم من الكآبة العامة التي تكتنف أغلب القصص، إلا أنها جميعًا تنشد الحرية، تنشد الدعوة إلى عالم أكثر عدلًا، عالم يرجو فيه كنفاني أن يعود المهمشون إلى الانتماء إليه.

تنتمي المجموعة القصصية، في لغتها وطبيعتها، إلى نفس الجو الذي كُتبت فيه رائعته "رجال في الشمس"، إلى حكاية المخيم الصامت، والفلسطيني الضائع الصامت الذي ينتظر الإنقاذ، إلى من يعيده ثانية إلى العالم الذي أُخرج منه . والمفارقة الآن أن الفلسطيني الثائر، الذي قاوم طوال هذه العقود وخرج عن صمته، ما زال اليوم، بسبب أخطاء حسابات السياسة ومؤامرات الاشقاء قبل العداء، يُعاد أمام أعيننا من خلال المحرقة المستمرة إلى نقطة الصفر ذاتها، الأمر الذي يضفي على القراءة طعمًا أشد مرارة .

تمتاز القصص بلغة بسيطة خالية من التكلف، وبأسلوب رمزي عميق. وتظهر فيها مفارقات سردية لافتة؛ حيث يقابل كنفاني بين مشهدين لا يبدو بينهما صلة مباشرة، لكنه يجعل من هذه الثنائيات مفاتيح لفهم أعمق: المرأة الوحيدة والقطة في قصة "الشاطئ"، الزوج الذي ينشغل بمغامرات مسعود مقابل الزوجة التي تتأمل أخطاء الخادمة في "رسالة من مسعود"، الأطباء الذين يحاولون إنقاذ الفتى المحتضر في الشارع مقابل حكاية أبيه وطبلة في "عطش الأفعى"... كلها مفارقات تعزز من الأثر الدرامي والتأملي للقصص.

هناك الكثير مما يمكن قوله عن هذه المجموعة القصصية، وقد يحتاج بعضها إلى كتب لتحليله ودراسته، ولن تفيه حقه أبدًا قراءة عابرة لقارئ بسيط.

بين يدي الطبعة الثانية لمنشورات رمال 2014، نشرت القصص لأول مرة عام 1965، تقع المجموعة في 188 صفحة. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة لرواية خان الخليلي لنجيب محفوظ

قراءة للمجموعة القصصية أكابر لميخائيل نعيمة

قراءة لمسرحية "السلطان الحائر" لتوفيق الحكيم