قراءة في رواية "الموت في البندقية" لتوماس مان


 

هذه تجربتي الأولى مع الروائي الألماني توماس مان، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1929، والذي يُعدّ من أبرز كتّاب الحداثة الذين قدّموا قراءة عميقة للشخصية الألمانية والأوروبية. ومما لا شك فيه أنها لن تكون التجربة الأخيرة، فقد دفعتني الرواية إلى التطلع لقراءة روايته الشهيرة "الجبل السحري"، الراقدة على رفوف مكتبتي منذ خمس سنوات.

في "الموت في البندقية"، يطرق توماس مان جملة من الثيمات الوجودية والإنسانية: علاقة الفن بالفنان، الإلهام، الجمال، وتأثير ذلك كله في النفس الإنسانية. تتناول الرواية أيضًا الانحدار الأخلاقي السريع، والتحولات المفاجئة، والوحدة، والشوق، والشيخوخة، والشباب، والحب، والموت، والاضطرابات النفسية والروحية. كل هذه المواضيع يطرحها مان من خلال عمله القصير الكثيف، المفعم بالرمزية والمونولوجات الداخلية التي يغوص بها في أعماق الإنسان، رغباته وتحولاته.

تتسم الرواية بسهولة وبساطة حبكتها العام، إذ تروي قصة الكاتب والشاعر الشهير "غوستاف أشنباخ"، الذي لطالما اعتز بإرثه النبيل وكتاباته الرصينة التي سمت عن الهزل والابتذال، متّخذًا من العقل والحكمة والاتزان ثيمات أساسية في حياته وأدبه. يبلغ أشنباخ الخمسين من عمره حين يقرر الابتعاد مؤقتا عن عالم الشهرة، باحثا عن السكون في مدينة البندقية، ظنًا منه أن البحر وسحر المدينة سيمنحانه بعضًا من الطمأنينة. غير أن الأمور تأخذ منحًى مغايرًا حين يفتتن بجمال فتى يقيم في الفندق نفسه، لتبدأ رحلة انحدار داخلي تدريجي تنعكس في ملاحقته لذلك الجمال، من ردهات الفندق إلى الشاطئ، ثم إلى أزقة المدينة، في موازاةٍ تامة مع اضطراب روحه وفقدان توازنه، تزامنًا مع تفشي وباء قاتل يحصد أرواح المئات من سكان المدينة.

يمتاز توماس مان بمعالجة فكرية رصينة وعميقة لموضوعات معقدة وحساسة، مستخدمًا لغة بالغة النقاء، تخلو من الابتذال أو الإسفاف، وهو ما زاد من إعجابي بهذه الرواية. كما أن استحضاره للتراث الإغريقي، من أفلاطون وأيون إلى آلهة الأولمب، أضفى على الرواية بُعدًا شعريًا خاصًا.

ولا يسعني في الختام إلا أن أشير بإعجاب كبير إلى الترجمة التي أنجزها المترجم السوري الراحل عدنان حبال، وهي أول تجربة لي مع ترجماته. كانت الترجمة رائعة بكل ما للكلمة من معنى، وربما لا أبالغ إن قلت إنها من أفضل الترجمات التي قرأتها. لقد وجدت نفسي أتساءل: هل أقرأ رواية كُتبت أصلاً بالعربية؟ فرغم قراءتي لتراجم كبار المترجمين العرب مثل صالح علماني، وسامي الدروبي، وخالد الجبيلي وغيرهم، وهم أساتذة مبدعون بلا شك، فإنني كنت دومًا أشعر أنني أمام نص مترجم. أما مع ترجمة عدنان حبال، فقد اختفى هذا الشعور تمامًا.

نشرت الرواية بلغتها الاصلية عام 1922م ، بين يدي طبعة ورد الأولى 2015. تقع الرواية في 134 صفحة.

تقيمي الشخصي:8.5/10 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة لرواية خان الخليلي لنجيب محفوظ

قراءة للمجموعة القصصية أكابر لميخائيل نعيمة

قراءة لمسرحية "السلطان الحائر" لتوفيق الحكيم