قراءة في كتاب "على هامش صراع الحضارات" لمحمد حسنين هيكل
كان كتاب صراع الحضارات لصامويل هنتنغتون من أوائل الكتب التي قرأتها، حين عثرت عليه مصادفةً في نهاية المرحلة الإعدادية، بين ركام من الكتب القديمة في إحدى الغرف المهجورة في بيت جدي القدم. دفعني عنوان الكتاب وشهرته لقراءته، ولا زلت أذكر انبهاري الشديد بفكرته آنذاك، رغم أنني كنت أجهل الرسائل الخفية التي كان يحملها. كان ذلك في بدايات "الزمن الأمريكي"، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، حين بدأت أفكار هنتنغتون تجد طريقها إلى مؤسسات صناعة القرار الأمريكي. حيث اصبحت بمثابة بذور لأسطورة "الإرهابي العربي والمسلم"، التي تحولت لاحقًا إلى مبرر لسلسلة من المغامرات الأمريكية الدامية، من أفغانستان إلى العراق، ومن سوريا إلى ليبيا، مرورًا باليمن والسودان.
ينطلق الأستاذ هيكل في مقالته الأولى - ورقة أولية كتبها وأرسلها إلى المهتمين في الشرق الأوسط خلال فترة حمى 'صراع الحضارات' التي اجتاحت العالمين العربي والإسلامي، حيث عُقدت الندوات وأُنشئت المعاهد والمؤسسات- من هدف واضح: تفنيد فكرة "صراع الحضارات" وحتى "حوار الحضارات"، معتبرًا أن كلا المفهومين مجرد اختراع ملتبس يهدف إلى تبرير الصراعات السياسية. ويشير إلى أن العرب، خلافًا للصين والهند، ركضوا خلف هذه الشعارات، ووجدوا أنفسهم يتوسلون الاعتراف من الحضارة الغربية، بعد أن أخرجوا أنفسهم من مشهدها. ويؤكد هيكل أن الحضارة هي ثمرة مساهمات جميع الشعوب، ولا يمكن لأمة، مهما بلغت، أن تحتكرها وتنسبها لنفسها، وتقصي غيرها من سياق التاريخ.
"الذي حدث على طول التاريخ أن ما حققته المجتمعات المتعددة من ثقافات متنوعة، انتقل بالاختيار المفتوح والطلب الحر — عندما بان نفعه وتأكدت قيمته — إلى الأقاليم المحيطة بموطنه، وهناك تفاعل مع ما وُجد، ثم راح ما تجمع في الأقاليم ينتشر — بثبوت نفعه وصلاحيته — إلى آفاق أوسع وأبعد. ومرةً ثانية، فعل وتفاعل، ثم تحول مجمع الثقافات إلى محيط حضاري لا يحتاج إلى إلحاح أو إلى سلاح، لأنه شراكة للجميع، وحاجة للكل، وثروة بالمشاع بينهم، وادخار لطموحاتهم عندما تحركهم الهمم".
في المحاضرة الثانية، التي قدمها في أكسفورد، يوجه هيكل "رسالة من الجنوب إلى الشمال"، من جنوب محاصر بالفساد والديكتاتورية والمؤامرات الغربية، يعيش تحولات حضارية كبرى تمر بمخاض صعب وطويل. لكن هذه التحولات، في ظل السماء المفتوحة والإعلام المسيس، تظهر للعالم كفضائح موثقة بالصوت والصورة. أما في المحاضرة الثالثة، في افتتاح متحف الفن الإسلامي، فيتتبع هيكل تطور الفنون الإسلامية، ليؤكد أن الحضارة الإسلامية كانت نموذجًا فريدًا للانصهار الحضاري، حيث التقت فيها مؤثرات ساسانية ورومانية وفرعونية، مما يعزز فكرته الأساسية بأن الحضارة هي نتاج مشترك للإنسانية.
خلاصة القول، إن هذا الكتاب يحتوي على مقالات فكرية عميقة، أدعو الجميع لقراءتها، خاصة في هذا الزمن الذي أرى أن خطورته لا تكمن في تحالف القوى الكبرى من جهة، وفي فساد الداخل وتشرذمه من جهة أخرى، بل نتيجة غياب الوعي الحقيقي بواقعنا.
تعليقات
إرسال تعليق