قراءة لرواية حياة كاملة لروبرت زيتالر



 

 يتحدث روبرت زيتالر في روايته الرائعة "حياة كاملة " والتي ترشحت لجائزة المان بوكر العالمية للأعمال المنشورة بغير اللغة الإنجليزية لعام ٢٠١٦، عن البسطاء والمهمشين في المجتمعات الحديثة، عن أهل الريف وخصوصا الريف الأوروبي، الذي صدمتهم الحضارة الحديثة والرأس مالية في أبشع لحظاتها حين سحقتهم في صناعاتها واستهلكتهم في حروبها وخلق حداثتها دون أن تشركهم أبدا في أرباحها، وعن التحولات الكبرى التي شهدتها الأرياف في المجتمعات الأوروبية الحديثة خصوصا النمسا وألمانيا في النصف الثاني من القرن العشرين حيث تحولت من مجتمعات زراعية رعوية بسيطة إلى مجتمعات عالمية معتمده بشكل كلي تقريبا على السياحة والخدمات. 

 

 اخترت الرواية مصادفةً ولم أكن أعرف عن النص إلا ترشحه لجائزة المان البوكر إلا أنها ويال محاسن الصدف كما يقال كانت مناسبة جدا لي خصوصا بعد قراءة رواية حيدر حيدر "الزمن الموحش" فقد كانت بتأملها الهادئ للحياة وعلاقة الإنسان بالطبيعية أمام زحف الحضارة بالإضافة إلى رسائلها عن الأمل وحب الحياة رغم كل ما فيها من مآسي وصعاب وكرب أفضل وصفة لتجاوز الآلام والتشاؤم والكآبة التي حفلت بها رواية الزمن الموحش لحيدر حيدر. 

 

تحكي رواية حياة كاملة قصة اندرياس إيجر وهو شاب ينشأ يتيما في مزرعة قريب له في إحدى الأرياف النمساوية في النص الأول من القرن العشرين. يعيش الطفل حياة صعبة في ظل قريبه المتدين الذي يستغله في الخدمة والعمل منذ سن صغيرة ويعرضه لأقسى أنواع التعذيب التي تنتهي في إحدى الأيام بخلع رجله ليعيش بقية حياته كرجل أعرج. بعد بلوغه الثامنة عشر يخرج ايجر من المزرعة ليعمل كعامل جوال يتمكن بعد ٩ سنوات من الكفاح من جمع مبلغ صغير يساعده في استجار أرض وبناء بيت في احدى سفوح الجبل الذي تطل على الوادي التي تقع فيها قريته ليبدأ حياة مستقلة. 

 

مع بداية الثلاثينات تصل الشركات الحديثة الى الوادي لبناء تلفريك يصل بين الواديان التي تقع فيها القرى وقمم الجبال. ينضم ايجر للعمل معهم فيعمل في قطع الأشجار ومد الأسلاك ويتنقل مع الشركة بين المناطق المختلفة. في الوقت ذاته يعجب الشاب بفتاة فقيرة تعمل نادلة في إحدى الحانات تدعى ماري. يتزوج ايجر من ماري اليتيمة وينتقل الزوجان للعيش في كوخهم على سفح الجبل ويؤسسان بيتا بسيطا قائما على الحب الساكن اللطيف الذي يرسمه لنا روبرت زيتالر من خلال الأفعال والتصرفات واللحظات الإنسانية الرائعة التي نعيشها مع الزوجين دون أن يقول أحدهم للآخر أحبك ودون الكثير من الفلسفة الدعائية حول الحب.  

 

على أن الأقدار لا تبتسم كثيرا لايجر حيث تنقلب عليه لتفقده الكثير، ابتداء بحبيبته ماري، ثم حريته حيث يجد نفسه في خنادق الحرب العالمية الثانية في روسيا، ثم أسيرا في إحدى معتقلات ستالين الرهيبة.  في الفصول الأخيرة من الرواية يعود ايجر إلى قريته في النمسا ليعيش وحيدا في كوخ بعيد مرتفع عن بقية بيوت القرية التي تحولت في معظمها إلى نزل للسياح القادمين للتزلج ومشاهدة الطبيعية الخلابة.  

 

" كان الناس على ما يبدو يبحثون في الجبال عن شيء يعتقدون أنهم فقدوه قبل وقت طويل. هو لم يستطع أن يدرك ما هو هذا الشيء، لكنه بمرور السنوات يزداد قناعة أن السياح لم يكونوا يتبعونه هو في الأساس بقدر ما كانوا يتبعون، متعثرين في خطاهم، حنينا ما، مجهولا، ولا شفاء منه"  

 

مع الوحدة والعزلة التي يعيشها ايجر في نهاية حياته يأخذ زيتالر قارئه في رحلة تأملية وعميقة عن علاقة الانسان بالطبيعية، حول العزلة وحركة الزمن وحول معاني الحياة وهي رحلة تبعث على الأمل والوحشة في وقت نفسه جعلتني كقارئ اتفكر في تسعه وعشرين سنة التي امضيتها في هذه الحياة.  لزيتالر قدرة عجيبة في خلق شخصيات عالميه من واقعنا المعاش فعلى الرغم من الاختلافات الثقافية والمكانية والزمنية التي عاشت فيها شخصيات الرواية الا اننا وبكل سهوله يمكننا أسقاطها على وقعنا المعاش وعلى شخصيات تعيش بيننا الآن وهنا يكمن حسب رأي جمال رواية مثل هذه. 

 

 اجملا، الرواية رغم قصرها وبساطتها وبساطة ابطالها رواية متميزة وعميقة أعطت صوتها دون تكلف او ادعاء للمهمشين والبسطاء المهملين في عالمنا وقدمت لقرائها وانا منهم شحنة من الأمل وتقدير جديد للحياة الكريمة – privileged life – التي نعيشها. 

 

"حسب شهادة ميلاده التي كانت برأيه لا تساوي حتى قيمة الحبر التي ختمت به، عاش إيجر تسعه وسبعين عاما. لقد صمد فترة أطول بكثير مما سبق أن توقع هو نفسه أن يصمد، واستطاع بالمجمل أن يكون راضيا. لقد نجا من طفولته، ومن الحرب، ومن انهيار جليدي ...

.... 

لقد أحب واخذ فكرة الى اين يمكن للحب أن يقود، لقد رأى بضعة رجال يمشون فوق القمر. لم يضطر يوما للإيمان بالله، ولم يخف من الموت. لم يكن باستطاعته أن يتذكر من أين أتى، وفي النهاية لم يكن يعرف الى اين سيمضي. لكنه كان يستطيع أن ينظر خلفة، الى الزمن الممتد بينهما والى حياته، بلا أسف، بضحكة مجلجلة وبذهول كبير لا مثيل له ... "  

 

أخيرا، ترجمة الرواية رائعة ومتميزة.

 

تقيمي الشخصي: ٨/١٠ 

تقع الرواية في ١٤٣ صفحة، بين يدي الطبعة العربية الأولى ترجمة ليندا حسين، عن دار التنوير للطباعة والنشر.  

القادم يافا تعد قهوة الصباح لأنور حامد       

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة للمجموعة القصصية أكابر لميخائيل نعيمة

قراءة لرواية خان الخليلي لنجيب محفوظ

قراءة لكتاب الهويات القاتلة لأمين معلوف