قراءة لرواية العمى لجوزيه ساراماغو
هذه ببساطة هي أروع رواية قرأتها منذ انتهائي من ثلاثية نجيب محفوظ قبل أربع سنوات.
لعلها لا تكون من المبالغة القول أنه لا توجد رواية على الإطلاق مناسبة للأحداث التي عشنها ونعيشها الآن في هذا العام الغريب ٢٠٢٠ كرواية "العمى" للروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو الحائز على جائزة نوبل للآداب لعام ١٩٩٨م. فمحور الرواية الرئيسي هو وباء العمى الذي ينتشر في إحدى الدول ويحول حياة سكانها فجأة إلى جحيم يتقاطع وإن بصور أقل درامية مع ما نعيشه الآن من أحداث مع وباء كوفيد-١٩. كما أن الأسئلة التي تطرحها في هذا المجال حول إدارة الهلع والخوف وأخلاقيات التعامل مع المرضى والمصابين من قبل الحكومات والشعوب بالإضافة إلى الموازنة بين المدى الذي تنتهي معه الحرية الفردية في مقابل حماية المجتمع تتقاطع مع كثير من الأسئلة الأخلاقية التي طرحت خلال هذا العام.
غير أن ثيمات الرواية الكثيرة لا تنتهي عند هذه النقطة فقط، بل لعل هذه النقاط وإن كانت محرك أحداث الرواية إلا أنها لا تشكل إلا قشور المواضيع العميقة والمهمة التي يطرحها ساراماغو في رائعته العظيمة، فمن الجشع الرأسمالي العالمي الذي انتهك الشعوب في العالمين الأول والثالث إلى عسكرة الأنظمة والإدارات خلال الأزمات، ومن الجرائم الإنسانية التي ارتكبها الإنسان خلال القرن الماضي بل حتى في السنوات الماضية في معسكرات الاعتقالات الرهيبة في ألمانيا وروسيا والصين بل وحتى أمريكا و اسبانيا إلى الجرائم التي ارتكبها العالم الإنساني والحديث في اتجاه الشعوب التي استعمرها في كل بقاع العالم من الجزائر إلى الفيتنام مرورا بالعراق وفلسطين وأخيرا الحروب الأهلية التي عصفت وما زالت تحطم الكثير من بلدان العالم الثالث وسط صمت عالمي رهيب، أضف إلى ذلك حملات العداء والشيطنة المتنامية في العالم اتجاه المهاجريين والأقليات في معظم العالم الحديث والتي أوصلت أشخاصا مثل ترامب وجونسون إلى سدة الحكم في أعرق ديموقراطيات العالم.
كل هذا جعل من تجربة قراءة هذه الرواية تجربة فريدة حملتني على إنهائها في وقت قياسي إذ لم أستطع أن أضع الكتاب جانبا، فإثارة الموضوع، وأسلوب سارماغوا التصويري المتميز بالإضافة إلى التعاطف والتماهي الذي كنت أعيشه كقارئ مع شخصيات الرواية جعلني أنهي معظم الكتاب في جلسة واحدة متواصلة على الرغم من كل القسوة والأسى والألم اللواتي كانت تعيشها تلك الشخصيات.
كما أسلفت تدور أحداث الرواية حول وباء عمى ينتشر في إحدى المدن ـ التي لا يذكر اسمها – يبدأ الوباء فجأة عندما يصاب به سائق سيارة أمام إشارة المرور، ينتشر بعدها المرض بصورة سريعة ودون تفسير ابتدأ من الرجل الذي يساعد المريض الأول في الوصول إلى منزله ليقوم بسرقة سيارته، ثم طبيب العيون الذي يعاين المصاب الأول ويبلغ السلطات الصحية بأنهم أمام وباء غاية في الغرابة. ينقل المرضى الجدد وهم المريض الأول وزوجته، السارق، الطبيب وزوجته التي لسبب غير معلوم تنجو من العدوى، كل المرضى الذين تواجدوا في عيادة طبيب العيون في ذلك اليوم إلى مشفى مهجور كان مخصصا للمرضى الأمراض العقلية.
يواجه المرضى العميان الكثير من الصعاب في مستشفى المجانين ابتدأ من غياب أبسط أنواع العناية حيث يزج بهم إلى مستشفى مهمل يفتقد لأبسط متطلبات الحياة. يعيش المرضى في المستشفى تحت حكم عسكري صارم فعند إصابة أحد المرضى إصابة بليغة تعرضه لحمى شديدة ترفض كل طلبات الطبيب وزوجته في الحصول على أي أدوية وحين يشتد به المرض ويقرر الزحف للبوابة يواجهه الجنود الخائفين بالسلاح ليسقط قتيلا أمام البوابة.
تتدهور الأوضاع بعدها بصورة مريعة في مستشفى الأمراض العقلية فمع ازدياد الحلات المرضية تزدحم الأسرة ويدخل المرضى في صراعات حول الأسرة ثم الطعام الذي يصبح شحيحا مع الوقت، هذا بالإضافة إلى أن غياب الماء والنظافة من المرافق الصحية يحول ممرات المستشفى إلى برك من البول والغائط. لا تتوقف الأمور عند هذا الحد حيث يشكل مجموعة من العميان المسلحين عصابة يستحوذوا معها على كل الأطعمة مطالبين بكل الأشياء الثمينة التي يملكها المرضى الآخرين في مقابل الغذاء إلا أنه ومع نفاذ كل الأشياء الثمينة يبدأ المجرمون بطلب النساء مقابل الطعام المقدم. تصل الرواية هنا إلى واحدة من أصعب لحظاتها حين تقود زوجة الطبيب مجموعة من النساء إلى حفلة من الاغتصاب والامتهان والقسوة تنتهي بإحداهن قتيلة.
تستطيع زوجة الطبيب وهي الوحيدة التي تستطيع الرؤية تنظيم بقية المرضى لمواجهة العصابة المسلحة، وتشكل مع مجموعة المرضى الذين أصيبوا في عيادة زوجها رابطة أسرية جديدة تمكنهم من البقاء في ذلك المكان المريع. مع تدهور الأوضاع في الخارج يختفي الجنود ويتمكن العميان من الهروب من المستشفى ليجدوا المدينة في حالة أسوء مما كانت عليه الأوضاع داخل المعتقل الرهيب. عندها هذه النقطة وهي منتصف الرواية ربما سأتوقف عن الحديث عن احداث الرواية ولعلي اشير سريعا أيضا اني ارتأيت عدم ذكر الكثير من التفاصيل عن الأحداث التي صارت في مستشفى الامراض العقلية حتى لا أحرق احداث الرواية علي أحد واحرمه من متعة ـ أن صح التعبير ـ المفاجأة.
من خلال ما سبق يمكن القول أن أهم ما أراد ساراماغو إيصاله ـ من وجهة نظري على كل حال ـ من خلال روايته الرائعة هو إيضاح وإن كان بصورة مبالغة فيها مدى هشاشة الحضارة والإنسانية التي نتشدق بها، والسهولة التي يمكن أن تسقط إنسانيتنا أمام أضعف الاختبارات والكوارث، ولعل الحربين العالميتين الأولى والثانية والدمار بل أن الجرائم الحيوانية التي ارتكبها الإنسان نحو بني جنسه ساهمت في تشكيل تلك الصورة الظلامية التي حملها سارماغوا حول الطبيعة الإنسانية والمدى التي يمكن أن يصل إليه الإنسان بكل سرعة وبساطة.
في أثناء قراءة بعض المشاهد قد يصاب القراء بالصدمة خصوصا مشاهد الاغتصاب والعنف في معسكر الاعتقال وكذلك مشاهد المدينة التي تموج بالعمى إلا أن ما عشناه خلال العشر السنوات الأخيرة في العالم العربي خلال الحروب الأهلية في سوريا وليبيا واليمن وما جلبته هذه الحروب من ضياع لكل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية والتي كنا نشاهدها ولا نزال على شاشات التلفاز يؤكد السهولة التي يمكن فيها للإنسان الوقوع إلى مستنقع العنف واللإنسانية الأمر الذي ضاعف من التأثير النفسي للرواية علي شخصيا.
في الختام، يقول سارماغوا في نهاية الرواية على لسان إحدى شخصياته الرئيسية وهو هنا يختصر بسهولة رسالة الرواية الرئيسية أن العمى الحقيقي هو ليس ذلك الذي أصاب الإنسانية في ذلك الوباء الرهيب، العمى الحقيقي هو ما نعيشه هو العمى الأخلاقي والإنساني، هو تجاهلنا لمآسي الفقراء والمهمشين، هو تجاهلنا لما يمارسه السياسيين من جرائم باسم الوطنية أو الدين أو القومية:
"لماذا صرنا عميانا"، " لا أعرف، ربما ذات يوم سنكتشف السبب وراء ذلك"، "هل تريدني أن أخبرك بما يجول في ذهني"،" نعم، أخبريني" ، "لا أعتقد أننا صرنا عميانا،أعتقد أننا عميان أصلا"، "نحن عميان لكننا نرى"، "عميان بوسعهم أن يروا، لكنهم لا يرون"
الترجمة جيدة وإن كان لي عليها بعض الملاحظات إلا أن الأكيد أن المترجم العراقي علي عبد الأمير صالح بذل جهدا هائلا لترجمة هذا العمل الروائي الصعب وذلك بسبب أسلوب ساراماغو الخاص الذي يتميز بجمله الطويلة التي تصل في بعض الأحيان إلى أكثر من صفحة، بالإضافة إلى غياب الفواصل في الحوارات بين الشخصيات، وهو الأمر الذي يتطلب جهدا مضاعف لتحديد شخصية المتحدث.
تقيمي الشخصي: ١٠/١٠
تقع الرواية في ٤١٣ صفحة، بين يدي الطبعة العربية الأولى عن دار الجمل ٢٠١٨، ترجمة علي عبد الأمير صالح
تعليقات
إرسال تعليق