قراءة لرواية تبكي الأرض ... يضحك زحل للقاص العماني عبدالعزيز الفارسي
علي الاعتراف في المقدمة أن متابعتي و قراءتي للمنتوج الثقافي العماني محدودة، ويعود ذلك ربما لأن معظم ما قرأته إلى الآن وللأسف كان مخيب للآمال، باستثناء روايتي الباغ لبشرى خلفان ونارنجة لجوخة الحارثية، لذلك على القول أن رواية القاص العماني عبدالعزيز الفارسي " تبكي الأرض ... يضحك زحل" قلبت كل الموازين فهي بحق رواية استثنائية بكل المعايير وأفتخر كقارئ عماني بسيط بوجودها ضمن الإنتاج الثقافي لبلادي. رواية تعود بك ودون استصغار أو نظرة استعلاء إلى الحارة العمانية ولحياة البسطاء، وصراعاتهم اليومية. رواية رغم شيء من اللامعقولية، ورغم شخصياتها الاستثنائية ذكرتني بحارتي وأهلها، ذكرتني بحياتهم و صراعتهم البسيطة حول إمام المسجد، والمؤذن المناسب و شيخ القرية الحقيقي، رواية – وربما لم يكن هذا مقصودا من الكاتب - أخذتني لعالمي المفضل حيث وجدت نفسي أعيش شيئا من روح نجيب محفوظ في حكايات الحارة المصرية والكوميديا السوداء عند توفيق الحكيم ، رواية جمعت بنجاح بين واقعية نجيب محفوظ و بعضا من لا معقولية غارسيا ماركيز.
تنتمي رواية عبدالعزيز الفارسي من وجهة نظري البسيطة إلى أدب الكوميديا السوداء غير أنها تجمع بين الكوميديا و التراجيديا، وتنتقل بينها بنجاح فتضحك في حين وتحزن في أحيان أخرى. تدور أحداث الرواية التي تجمع أيضا في طياتها بين الواقعية الشديدة وشيئا من الغرائبية ولا المعقولية المقبولة ضمن العالم الخاص الذي رسمه لنا عبد العزيز الفارسي في روايته حول الصراع على السيادة في قرية عمانية/خليجية متخيلة، بين من يريد التحجر في الماضي بسلبياته وإيجابياته، وبين مجموعة متسرعة للتغيير دون إدراك حقيقي لمعنى التغيير، لا يعنيها القضاء على أي شيء في طريقها. ورغم الرمزية الواضحة في الرواية إلا أن الرواية يمكن قراءتها والاستمتاع بها في إطارها المباشر دون التفكير في ما وراء شخوصها و أحداثها من رموز.
تبدأ الرواية بعودة أحد أبنائها المتعلمين إلى القرية، والذي يعود إليها بعد صدمة نفسية أعقبت فشل أولى علاقاته الغرامية فيقوم بسلسلة من الأعمال الغريبة تزعج أهل القرية، وتؤدي إلى انقسام بين مطالبٍ بطرد العائد المشاكس، وبين رافضٍ لهذا الطلب. يتطور بعدها صراع بين أهل القرية فيجد بعضهم أن سيد القرية الحالي لا يصلح لضبط أحوالها الآخذة في التدهور فيقرروا بناء مجلس رديف لمجلس القرية لا يخضع أحد فيه للتقاليد القديمة في محاولة منهم لسحب البساط من تحت سيد القرية التقليدي المحيان بن خلف.
كتبت الرواية بأصوات أبطالها الرئيسيين حيث يتناوب على السرد مجموعة من أهل القرية، هم الشاب المتعلم خالد بخيت الذي يعيش أزمة نفسية، والشيخ التقليدي للحارة المحيان بن خلف، وإحدى فتيات الحارة المتعلمات عايدة ، وقائد مجموعة الانفصال سهيل الملقب الجمرة الخبيثة، والرجل القوي في الحارة، وصاحب اللسان السليط حليف الشيخ ولد السليمي، وأخيرا الشاب الأسود اللقيط الذي يعمل خادما لشيخ الحارة خديم ولد السيل. من خلال الفصول يتعرف القارئ بالتدريج على ماضي القرية الغريب، بالإضافة إلى وجهات النظر المختلفة لتحرك الأحداث. ينجح الكاتب خلالها في تقديم وجهة نظر الشخصية المتحدثة رغم انحيازه للفريق على حساب الآخر إلا أني شخصيا وجدت نفسي متحيزا للمجموعة التي أراد الكاتب أن يظهرها بطريقة أكثر سلبية. يرسم الفارسي شخصياته المركبة بعمق ولمل منها الارك الخاص به حيث تتغير في اطار متناسب مع حركة الرواية، ورغم الكشوفات الكبرى في نهاية الرواية التي تقلب الشخصيات في الظاهر إلا أن المتابع بدقة لطبيعة الشخصيات التي يكشفه ماضي مناقض لحاضرها يمكن أن يرى أن الفارسي كان يزرع الشكوك حول الشخصية من البداية و لذلك لم تكن تلك الكشوفات فجة وإنما متناسقة كما أسلفت مع حركة الرواية.
على جانب الآخر، لا تخلو الرواية من بعض السلبيات التي أثرت علي في أثناء القراءة ، أولها ألقاب الشخصيات التي وجدت فيها محاولة لا داعي لها للتذاكي والفكاهة ربما، كما أن الكشف عن أصل تلك الألقاب لم يساعد البتة في تقبلها. أما العتب الثاني على الرواية فهي أن الشخصيات رغم تباينها علميا وثقافيا واجتماعيا ورغم اختلاف آرائها تتكلم بنفس الطريقة ونفس اللغة والأسلوب ولا تحمل صوتها الخاص؛ فالخادم الذي عاش طوال حياته في صب القهوة يتحدث بالفلسفة والأسلوب نفسه الذي يتكلم به خالد بخيت و هو الجامعي المتعلم.
أخيرا علي التعريج لو سريعا على لغة الرواية التي كتبت بلغة شاعرية جميلة ورصينة ، فالفارسي وهو الطبيب متمكن من أدواته اللغوية، أضف إلى ذلك أن الرواية مملوءة بالكثير من الحوارات الذكية و الساخرة التي تأكد قدرات الفارسي اللغوية والفنية. في الختام، علي القول أن هذه الرواية هي أفضل ما قرأت إلى الآن من الإنتاج الثقافي العماني و سأكون حريصا على اقتناء كل ما كتبه الفارسي سابقا و ،سأترقب الجديد من أعمال هذا الأديب العماني الكبير.
تقع الرواية في ٣٢٧ صفحة ، الطبعة الثانية ٢٠١٧ عن دار الانتشار العربي.
تقيمي الشخصي: ٨/١٠
القادم رواية التانكي للروائية العراقية عالية ممدوح
حمود السعدي
لمتابعة الجديد ارجو فتح حساب الأنستجرام: hamoodalsaadi
تعليقات
إرسال تعليق