قراءة لرواية ملك الهند لجبور الدويهي
قليلة تلك الروايات التي تستحوذ عليك منذ فصلها الأول، وتدفعك للانتهاء منها في زمن قياسي متحرقا لمعرفة القادم في كل فصل، ببداية سينمائية هتشكوكية ـ ذكرتني بالمخرج البريطاني ألفرد هيتشكوك ـ يأخذك فيها الدويهي، في ثالث رواياته التي تصل إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، في جولة على الحياة اليومية لزكريا مبارك العائد إلى بلدته بعد سنوات من الهجرة والتي على الرغم من بعض الغموض والتصرفات الغريبة تبدو للقارئ عادية لقادم جديد من الغربة إلا أنها تنتهي بمشهد ذروة غير متوقع في نهاية الفصل الأول:
" قصد كرم المحمودية بعد الظهر في مسيرة نصف ساعة على الأقدام. يأتي لينظر إلى الأفق البعيد وإلى صفحات حياته المتوارية خلف البحر. و في يوم من أيام الخريف الرائعة، بدأت فيه أوراق الشجر تتلون بين الصفرة و الاحمرار، رأته جماعة من المتنزهين من بعيد جالسا مرتديا بذلة الكتان كمن يستريح و غفا. اقتربوا منه فرأوا بقعة الدم الكبيرة تلوث بياض سترته. طلقة رصاصة واحدة لجهة القلب قتلته ! "
متخذا من هذه الجريمة والتحقيق فيها مدخلا يقوم الديوهي في روايتة بتشريح الوضع اللبناني الحالي و تأريخ لحياة الشعب اللبناني خلال قرن و نص القرن عاش فيها اللبنانين بين الهجرات الاختيارية و القسرية و الصراعات طائفية الدموية. بأسلوب روايات التحقيق و الجريمة يبدأ قاضي التحقيق كمال ابو خالد فك رموز الجريمة شيئا فشيئا ليصل بتحقيقه الى اربع وجهات او متهمين لكل منهم اسبابه و الأدله التي تدينه متخذا من كل متهم رمزا لجانب من جوانب اسباب فشل المشهد اللبناني الحالي.
في بداية الرواية تتجه أصابع الاتهام إلى أبناء العم الذين حرمهم جدهم من الميراث ويتخذ الدويهي من هذا مدخلا لاستعراض تاريخ العائلة منذ اختفاء الجد الأكبر في ظروف غامضة و اختيار الجدة فلومينا الهجرة ألى أمريكا بعد اختفاء زوجها للعمل لتعيل طفلها الوحيد بعد انعدام أسباب الحياة في لبنان. بعدها يتوجه مسار القضية توجها طائفيا حين يتهم أهل القرية المسحيين و عائلة الفقيد أبناء عائلة درزية لها ثأر قديم مع آل مبارك بارتكاب الجريمة ، الأمر الذي يكسب القضية تغطية إعلامية كبيرة لتحظى باهتمام السياسيين الذين يتخذون من تبني مثل هذه القضايا وسيلة لتقوية مواقعهم السياسية. بعدها يتوجه قاضي التحقيق كمال أبو خالد لاتهام صاحب سلسلة مطاعم في الخارج، و قائد من قواد الحرب الأهلية، الذي يترأس عصابة لتبيض الأموال في باريس، والذي يسعى لامتلاك لوحة فنية سرقها المغدور من إحدى عشيقاته تقدر بالملاين. أخيرا يتجه التحقيق إلى شبهة الانتحار حيث يجد كمال أبو النجا في حياة زكريا و ماضيه ما يدعم هذه النتيجة.
من خلال تقنية الفلاش باك و الحركة الذكية بين ماضي العائلة منذ مقتل جد فلومينا على يد مجموعة من الدروز خلال المذابح الطائفية في جبل لبنان عام ١٨٦٠ ، وحاضر مسار التحقيق على يد قاضي التحقيق كمال أبو خالد يقدم الدويهي ملحمة تاريخية لسيرة عائلة لبنانية و وطن ممزق خلال قرن و نصف القرن تتزامن مع رواية جريمة بوليسية ورحلة تحقيق مضنية مفتوحة على كل الاحتمالات يحيّر من خلالها القارئ و يشد أعصابه حتى الصفحة الأخيرة منها. في كل مرة يتوقع القارئ نهاية معينة لهذه القصة المأساوية ، يتفاجئ بانقلاب مسار التحقيق والقصة باتجاه مختلف تماما عن توقعاته ، ولكن النقلة في مسار الحكاية و التحقيق يحدث بطريقة انسابية و دون إشعار القارئ بأي شيء من الإقحام أو الفجاجة.
من خلال الملحمة التاريخية و القصة البوليسية للجريمة الغريبة يختصر الدويهي كما أسلفت قصة الوطن الحزين فزكريا هو باختصار لبنان و شعبها الذي مزقته الصراعات الطائفية و المماحكات ،والانقسامات داخل الطوائف على الزعامة و الإرث ، بالإضافة إلى أمراء جماعات الموت الذين استفادوا من نفوذهم السابق وغدوا من أصحاب الملايين عن طريق الفساد و عصابات غسيل الأموال لتختتم الرواية بالنهاية المأساوية حين يتم توجيه تهمة الانتحار للبنان الوطن والشعب. و كما كان للبداية الرواية اثر في جذبي فأن النهاية برمزيتها العالية و سطرها الأخير sealed the deal for me ، فربما مر زمان طويل لم أقرا نهاية بهذا الذكاء و الروعة.
على الجانب الآخر لا تخلو الرواية من بعض الهفوات التي لم استسغها، منها بعض المصادفات التي لم تقدم أي جديد في الرواية أو شخصياتها، بالإضافة إلى قصة الأرض الملعونة و التي رغم رمزيتها الواضحة إلا أنها أخرجتني من جو الرواية و هذا يعود ربما لذوقي الشخصي وليس عتبا على الرواية و الروائي. اخيرا هناك العنوان "ملك الهند" الذي لا يمت للرواية بصلة و لم يذكر الى في سطر واحد اشارة الى لقب غير مبرر للبطل الرواية الأمر الذي وجدته شخصيا محاولة للتشاطر على القارئ لم استسغها.
في الختام علي الإشارة و لو سريعا -رغم أنه ليس غريبا على روائي كبير مثل الدويهي - إلى لغة الرواية و شخوصها فالرواية كتبت بلغة جميلة وأسلوب رائع، كما أن معظم الشخصيات وحتى التي تمر مرورا سريعا منها كتبت بعمق، تشعرك بأنها شخصيات حقيقة تعيش بيننا.
تقع الرواية في ١٩٢ صفحة ، الطبعة الثانية ٢٠٢٠ عن دار الساقي…
تقيمي الشخصي : ٧.٥/١٠
القادم رواية لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة لخالد خليفة.
حمود السعدي
لمتابعة الجديد ارجو فتح حساب الأنستجرام: hamoodalsaadi
تعليقات
إرسال تعليق