قراءة لرواية الديوان الإسبرطي للكاتب الجزائري عبدالوهاب عيساوي
" في إفريقية لم تخلفوا شيئا لله ، كل شيء قد آل إلى قيصر "
انتهيت اليوم من الرواية الثالثة من الروايات المرشحة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام ٢٠٢٠ ، وهي رواية الديوان الإسبرطي للكاتب الجزائري الشاب عبدالوهاب عيساوي، وهي رواية تاريخية تعود بقارئها إلى الغزو الفرنسي للجزائر عام ١٨٣٠م وما سبقه من أحداث مهدت لذلك الغزو، والسنوات الثلاث الأولى التي اعقبت الغزو. وكما أوضحت في كثير من القراءات التي قدمتها لروايات تاريخية سابقة أنه من وجهة نظري البسيطة يكمن سر نجاح الرواية التاريخية في المعالجة المعاصرة و الآمنة في نقل الأحداث التاريخية، دون أن يطغى السرد التاريخي على تتطور الشخصيات ودورها في السرد. و لعلي لا أستبق الحديث إن قلت أن رواية الدوان الإسبرطي رغم بعض الهفوات هنا و هناك اجتازت هذا التحد ، فقدم خلالها العيساوي رواية تاريخية ممتعة ومعاصرة وبشخصيات واقعية وعميقة.
يقدم الكاتب من خلال خمس شخصيات لكل منها فصلها وصوتها الخاص في الأقسام الخمسة التي تقسم الرواية خمس وجهات نظر مختلفة للغزو الفرنسي للجزائر، أو المحروسة كما يسميها العرب في الرواية، وما سبقها من حياة العرب في ظل الحكم العثماني للمدينة، وما أعقبها خلال السنوات الثلاث الأولى للغزو. ابتدأ من وجهة نظر الغزاة ممثلا بديبون وهو الصحفي المسيحي المتحمس للغزو بعد ما سمع الكثير عن هذه المدينة البربرية المملوءة بالقراصنة والفاسدين، والذي يحلم بامتداد أمجاد أوروبا وأنوار المسيح المخلص إلى أهلها ، ثم كافيار وهو قائد من قواد نابليون الذي يؤمنون بالأمة الفرنسية العظيمة التي يجب أن تسيطر على العالم إلا أنه وبعد هزيمة واترلو تحمله الصدف على ظهر إحدى السفن التي تتعرض لغزو السفن العثمانية في المتوسط ليُأخذ بعدها عبدا في الجزائر، ويعمل فيها بالصخرة غير أن المصائر تنقلب به فيكون أحد مهندسي الغزو الفرنسي ليمارس الكثير من الفظائع انتقاما من المدينة وأهلها.
علي الجانب العربي، نجد شخصية ابن ميار وهو التاجر البراغماتي الحكيم الذي تجمعه صلات طيبة مع العثمانيين الذي حكموا البلاد، ثم ينظم إلى المجلس البلدي الذي يأسسه الاحتلال للمدينة في محاولة منه لتجنيب المدينة وأهلها أضرار هذا الغزو، معتقدا أن الاحتجاج والعرائض السليمة ستؤدي إلى تحصيل العرب لبعض حقوقهم التي أخذ المستعمر في سلبها شيئا فشيئا. على النقيض منه يقف حمه السلاوي، وهو الدرويش الثائر الذي يرفض الوجود العثماني، والجهل والظلم الاقتصادي والفساد الأخلاقي والاجتماعي الذي تعيشه المحروسة بالقدر نفسه الذي يعادي فيه المستعمر الأوربي وأذنابه في البلاد ليكون في الصفوف الأولى للمقاومين العرب للغزو الفرنسي. أما الشخصية الأخيرة فهي دوجة وهي النتيجة الإنسانية المأساوية للسنوات من الظلم في ظل الحكم العثماني والغزو الفرنسي، حيث تحملها الأقدار المريرة و دون إرادتها إلى حياة البغاء التي شرعها العثمانيون في مدينة المحروسة ثم يمتد مسلسل معناتها بعد الغزو الفرنسي.
طرحت الرواية من خلال شخصياتها الكثير من الأسئلة التي كانت ما زالت للأسف ذات صلة قوية بواقعنا المعاصر، ابتدأ من أوهام الاستشراق والغرب المخلص، الذي يأتي لينشر الديموقراطية والحرية والعدالة في الشرق البربري، وتأثير هذه الأوهام على الأفراد العاديين والمثقفين في المجتمعات الغربية والشرقية على حد سواء. كذلك تعالج الرواية الطريق الأفضل للحرية الاستقلال الشعوب بين الحراك السلمي والثورة، بين البراغماتية والأيدلوجية، والمدى الذي يمكن أن تصل إليه أي من هذه الطرق في تحقيق الأهداف والنتائج المرتبة ربما عن تغيب أحدها في مقابل الأخرى، هذا بالإضافة إلى الأسئلة حول الحكم العادل و قيم الفضيلة، والجهل المترتب على الظلم الذي تعيشه الكثير من مجتمعات الشرق.
على مستوى السرد و كما أسلفت تنقسم الرواية إلى خمسة أقسام في كل قسم يقدم كل بطل من أبطال الرواية الخمسة الأحداث من وجهة نظره الخاص و ينجح الكاتب إلى حد كبير في تقديم خمس أصوات مختلفة للشاب الفرنسي المسيحي الذي تتحطم أوهامه حول الأمة النبيلة التي تنشر الأنوار أمام الدمار ومناظر الدماء التي تخلفها جيوش الغزو، والقائد الإمبريالي المملوؤ بروح الانتقام والعنصرية، والشيخ الحكيم الذي يبحث عن السلام في وسط الخراب. والشاب الثائر الرافض لواقع شعبه الذي ينشد تغير كل ما حوله. كل هذه الشخصيات رسمت بطريقة احترافية بها ال arc الخاص بها، والمنسجم مع التغيرات التي تمر بها الشخصيات.
على الجانب الآخر لا تخلو الرواية من الكثير من الهفوات على المستوى السردي، فالرواية كتبت بطريقة الفلاش باك والفلاش فورورد، كما أن الأحداث لم تأتِ بطريقة مرتبة حسب تسلسل الأحداث، وهي طريقة لا مشكلة فيها إن استخدمت بالطريقة الصحيحة إلا أنها لم تنجح هنا خصوصا خلال النقلات داخل الفصل الواحد في حديث الشخصية، حيث جاء الانتقال بين الماضي و الحاضر مفتعلا في كثير من الأحيان خصوصا في فصول دوجة و ابن ميار و كافيار. أضف إلى ذلك ملاحظتي أنا القارئ البسيط الذي أملك أدوات لغوية بسيطة للعدد الذي لا بأس به من الأخطاء في التراكيب و الجمل المقسومة والمقطوعة، وهو أمر أترك الحكم فيه للمتبحرين في المجالات اللغوية.
في الختام ينجح هذا الكاتب الشاب في رصد حدث تاريخي مهم من التاريخ العربي المعاصر - كنت شخصيا أجهل عنه الكثير و دفعتني الرواية كثيرا للبحث و الاستقصاء والتوقف أمام الأحداث - من خلال رواية معاصرة بشخصيات عميقة وقوية يطرح من خلالها أسئلة مهمة وذات صلة قوية بواقعنا حول العلاقة الملتبسة بين المشرق والمغرب الأمر الذي سيجعلني أترقب القادم من أعمال هذا الكاتب الرائع.
تقع الرواية في ٣٨٤ صفحة ، الطبعة الأولى عن دار ميم للنشر.
تقيمي الشخصي: ٨/١٠
القادم رواية تبكي الأرض ... يضحك زحل للكاتب العماني عبدالعزيز الفارسي
حمود السعدي
لمتابعة الجديد ارجو فتح حساب الأنستجرام: hamoodalsaadi
تعليقات
إرسال تعليق