قراءة لرواية فردقان ليوسف زيدان
لعلها ليست المرة الأولى التي أذكر فيها اعتقادي أن كتابة الرواية التاريخية إحدى أصعب أصناف الكتابة الأدبية، وذلك أن الرواية التاريخية عليها إلى جانب التزامها التاريخي تقديم دراما مشوقه يقدم فيها الكاتب قراءة جديدة لشخصياتها تخرج بها من الإطار المحدود الذي يضعها فيها الباحثون وكتبة التاريخ والسير ، هذا بالإضافة إلى محاولة العمل الأدبي تقديم قراءة مرتبطه بواقعنا وقضيانا المعاصرة .
ولعلي لا أبالغ إن قلت أن رواية فردقان التي تتحدث عن اعتقال الشيخ الرئيس نجحت في ذلك إلى حد ما، خصوصا في تقديم قراءة معاصرة لشخصيات وأحداث تاريخية اخترقت المتعارف عليه في كتب التاريخ حول سير تلك الشخصيات وقدمت قراءة نقدية جريئة لتلك الحقبة التاريخية.
تدور أحداث رواية فردقان وهي الرواية الثانية التي أقرأها لهذا الروائي المخضرم بعد رائعته عزازيل التي فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية في نسختها الثانية حول حياة ابن سينا الإنسان والمفكر والطبيب وما عاصره من أحداث في ظل الصراعات المذهبية والطائفية والدينية والتي كانت تشل حركة العالم الإسلامي. تبدأ الرواية بمشهد انتظار المزدوج آمر قلعة فردقان للسجين الجديد بكثير من القلق والاضطراب، وذلك لما في نفسه من الاحترام والتقدير الشديدين لهذا العالم الجليل الذي ذاع صيته في مهنة الطب والفلسفة. يصل الشيخ الرئيس لتبدأ يوميات اعتقاله أو ضيافته، فيتفاجأ أن آمر القلعة يحسن إليه ويكرمه ويعامله معاملة الضيف لا السجين، فيقيم علاقة صداقة مع المزدوج ويقضي أيامه في علاج ساكني القلعة وما حولها ممن اعيتهم الأمراض المختلفة.
في الفصول التالية ينقلنا يوسف زيدان بين يوميات الشيخ في القلعة وبين ماضيه بطريقة متسلسلة وجميلة فيقدم سيرة ابن سينا منذ طفولته حتى شبابه في بخارى، ثم ينقلنا لسلسلة من رحلاته بين مدن فارس ودويلاتها المتناحرة هربا من الصراعات السياسية التي كانت تعصف بأحوال مدن فارس وخرسان بسبب أطماع حكامها، خصوصا السلطاني المملوكي الشهير محمود الغزنوي الذي يقرأها زيدان بصورة مختلفة عن المتعارف عليه في كتب التاريخ. فهي في نظر زيدان من خلال ابن سينا لم يكن الفاتح الشهير الذي فتح أجزاء من الهند، و ليس نصير الإسلام والمذهب السني الذي قمع الزنادقة و المعتزلة و الشيعة بل هو المملوكي الطماع المتعطش للدماء الذي اتخذ من شعار الإسلام و رفع راية السنة سبيلا لغزو الهند، فقتل المسالمين من أهلها و دمر ونهب ثرواتها، و ليس نصير السنة العظيم ، فقد كانت أطماع التمدد هي التي جعلته يهاجم دويلات البهوية و يرتكب الفضائع و الجرائم على سكانها من الشيعة أو علمائها من الفلسفة و المفكرين و شيوخ المعتزلة.
فيقدم صورة تعكس الماضي على الحاضر حيث نعيش اليوم بين دول اتخذ حكامها من رفع راية الدين سبيلا لتحقيق أطماعهم في السلطة فقمعوا الأقليات واسكتوا الأكثرية بالشعارات البراقة وتكفير وقمع المفكرين والأحرار في مجتمعاتهم، وهو بالضبط ما عانى منه ابن سينا وكأن يوسف زيدان يحكي بقصة اعتقال ابن سينا قصة نفي نصر حامد أبو زيد أو قتل فرج فودة كما يحكي من خلال غزوات الغزنوي أو صراعات البهويين استبداد العسكر بالحياة المدنية، أو حروب العرب في العراق وسوريا واليمن واستبداد العسكر في مصر وليبيا والجزائر:
" كان يجب أن تتوقع ذلك، وأنت الرجل الحكيم. فهؤلاء المماليك والمسالحة حين يبتعدون عما اعتادوه من خوض المعارك وسكنى الحصون والثغور، ويساكنون الناس في القرى والمدن. يصبحون من الأراذل وشرار الخلق، وينسون ضوابط الجندية. ثم يرون الناس غنيمة، فيسعون إلى مزيد من تحصيل المنافع ولو بالظلم، ويتمنون الإمارة والسلطة والسلطنة... "
عودا إلى جانب الإنساني وحكاية ابن سينا يقدم الكاتب دراما إنسانية عاصفة من خلال استعراض ثلاث قصص حب يعيشها الشيخ الرئيس لكل منها بدايتها وتطورها المختلف وإن اجتمعت جميعها في الخاتمة المؤسفة التي أثرت على شخصية الشيخ وحياته. بطريقة في غاية الهدوء والحرفية، يرسم زيدان شخصية ابن سينا المركبة، ثم يرصد التغيرات التي تحدثها رحلات الحرب وقصص الحب الثلاث، فنجد تطور الشخصية يتحرك بصورة متناسبة مع ما مرت به من أحداث واصطدامات. كما لم يغفل زيدان وهذا يحسب له عن أن قصة ابن سينا الإنسان ورسائل الحب والخيبة وقصص صراعات السياسة والدين لا تعني إهمال الجانب الفلسفي والطبي والإرث العلمي الضخم الذي تركه العالم الكبير؛ ليفهم القارئ الأسباب الذي جعلت من هذا الرجل أيقونة العالم الوسيط في مجالات الطب والفلسفة.
فالرواية تزخر بالكثير من التفاصيل حول الطب في ذلك الزمان من حيث الأمراض المختلفة وطرق علاجها والدواء وطريقة التفكير، وتركز على ما قدمه ابن سينا في هذا المجال وهو ما يدل على الجهد البحثي الذي بذله الكاتب كما تجدر الإشارة الى أن النقاشات الطبية وتكوين صورة ابن سينا الطبيب لم يأتي بصورة نمطية أو تاريخية بل جاءت بحرفية ضمن السياق الدرامي، وكان لها التأثير الكبير على الشخصية وتقدمها، وعلى المسار الدرامي العام للرواية. كما ان الجانب الفلسفي والإرث العلمي الكبير الذي يريد الكثيرين إهماله وطمسه في أيامنا يحضر حضورا قويا في الرواية مثل الجانب الطبي، ولا تظهر النقاشات الفلسفية وكأنها اقحمت إقحاما في الرواية بل تأتي ضمن الإطار الدرامي ليفهم القارئ الأسباب التي أدت إلى عداء المتزمتين والمتطرفين لابن سينا:
" وافق ابن سينا على المقترح، وراح يورد لهم قبل عرض أفكاره مقدمات، منها أنه لا يجوز الاحتجاج بالنقل لدحض الحجج العقلية، لأن العقل مقدم على النقل بالضرورة على النقل، باعتبار كونه الأعم في النوع الإنساني وكونه مناط التكليف وشرطه الأول ... احتارت روان من هذا الكلام لكنها بقيت ساكنة، وأضاف ابن سينا ما فحواه أن النصوص النقلية وردت في الشرائع لخطاب العوام والجمهور، لا الخواص والعلماء، فأوجبت الضرورة ضرب الأمثال وإيراد التشبيهات لتقريب المعنى إلى الأذهان. لكن كثيرا من الفقهاء والمتكلمين في الأمور الاعتقادية قطعوا على العوام طريق الترقي في الفهم، بإيهامهم أن النقل مقدم على العقل، وأنه اجتهاد فيما ورد فيه نص. وهذا يعني منع النقل مقدم على العقل عن النظر في ظاهر النص وباطنه، وهو ما ترتب عليه الخلط والتخليط في الاعتقادات، فتوهم الجهال أن ظاهر الشرائع حجة. وهذا مزلق خطير "
كالعادة مع يوسف زيدان لابد من التعريج على اللغة التي كتبت بها الرواية وكموضوع الرواية يجمع زيدان في كتابته بين المعاصرة والتراث . ورواية عزازيل تتميز من الناحية البلاغية الفخمة والصور الجمالية البديعة الى جانب تميز في وصف المكان والزمان للمشاهد المكتوبة. فالقارئ من خلال لغة الرواية يرى القلعة والمدن والأسواق ويشم الروائح ويتذوق الأشياء. أخيرا لا بد من التعريج ولو سريعا على باقي الشخصيات في الرواية وخصوصا الثانوية كالمزدوج ومهيار ومهاتب وروان والتي لا بد من القول أنها رسمت بطريقة احترافية ومركبة ومقعدة خرجت من القوالب العامة. على أنه كان لدي اعتراض أو انتقاد للرواية فإنه وباختصار ودون قول الكثير يكمن في شيئين هما شخصية سندس و مسار في الرواية و قصة الشاب القزويني الذي جن من العشق، فأي قارئ سينتبه للحالتين و سيشعر بأنها لم تتناسقا مع المستوى العام للرواية.
تقع الرواية في 315 صفحة، بين يدي طبعة الأولى 2018 لدار الشروق المصرية.
ملاحظة: الرواية مرشحة ضمن القائمة القصيرة للرواية العربية.
القادم رواية عودة الثائر...
تقييم الرواية ٨: ١٠
تعليقات
إرسال تعليق