قراءة نقدية لرواية لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة لخالد خليفة



"أستقبل نبأ موت الرئيس، أفكر هل سندفن الخوف مع جثمانة ؟ "

لطالما انتابني شعور أن الإنتاج الثقافي السوري خصوصا في مجالات السينما و الدراما التلفزيونية و الأعمال الأدبية   رغم النجاح الكبير و الإبداع الذي لا يمكن تجاهله يغلب عليه في أحيان كثيرة التكلف و التصنع والمبالغة، بالإضافة إلى محاولة التشاطر، الأمر الذي يجعله يفتقد في بعض الأحيان إلى التدفق المطلوب خصوصا في الأعمال الأدبية. وقد جاءت رواية خالد خليفة ـ وهو كاتب سيناريوهات تلفزيونية مثيرة للجدل و صاحب تصريحات نارية دائما ما يهاجم فيها زملاءه و نقاده ـ لا سكاكين في مطابخ  هذة المدينة لتأكد هذا الشعور فقد وجدتني واقفا متحيرا أمام الرواية التي لا يمكن إنكار الإبداع و القوة فيها، إضافة إلى أهمية موضوعها العام، فلماذا لم أستطع الاندماج معها؟ و لماذا وجدتني أغالب الصفحات وأنا أقرؤها، متمنيا انتهائي منها في أسرع وقت؟ أهي المبالغة في السوداوية أم أنني لم استطع تقبل الشخصيات التي وجدتها بأجمعها بعيدة كل البعد عن الواقع المعاش. 

تدور أحداث الرواية حول التغيرات الكبرى التي تشهدها سوريا خلال أربعين سنة من حكم البعث حيث يولد راوي الحكاية قبل ثلاث أيام من انقلاب حزب البعث عام ١٩٦٣.  متخذا من مدينة حلب - الذي لا يخفى عشق الكاتب لها- موقعا لأحداثه و مستحضرا (من خلال قصة عائلة مشتتة من الطبقة المتوسطة) الانحطاط الذي ستمر خلاله حلب و سوريا خلال أربعين سنة من حكم البعث. تتحرك الرواية في توازي مستمر بين الكوارث الاجتماعية و الاقتصادية التي تمر بها عائلة الرواي و الكوارث السياسية التي تعيشها سوريا، تنحدر خلالها العائلة من الطبقة المتوسطة و حياة شبه الاستقراطية لهذه الأسرة المتعلمة إلى مجتمع العشوائيات التي تنتشر على أطراف حلب بين الفقراء و المحرومين و النازحين، وكما تنحدر على الجانب الاقتصادي فإنها تتشت على الجانب الاجتماعي و الأخلاقي فيهاجر الأب مع عجوز أمريكا تاركا زوجته المتعجرفة التي ترفض الاعتراف بالواقع الذي آلت إليه، وتعيش على أحلام الماضي. وأربعة أطفال تموت الكبرى منهم بعد معاناتها مع الإعاقة و المرض، أما البقية فيتوزعون بين شاب مستسلم هو راوي الحكاية يعيش وحيدا دون هدف و شابة ثائرة ـ هي سوسن - على أمها ومجتمعها وخائفة من مصير ينتهي بها كأمها، لتتنتسب للحزب و تنظم للمظليات، ثم تصبح عاهرة لأحد القواد المتنفذين في حيز الرئيس؛ تتقلب بعد هجره لها بين التدين و الضياع، أما الأصغر ـ رشيد ـ الموسيقي فيعيش حياة ملتبسة بسبب عشقه لأخته نسرين ينقلب فيها بين السلبية المفرطة والتدين والارهاب لينتهي في نهاية الرواية نهاية مأساوية. 

يصف الروائي من خلال تلك الموازاة الحالة المزرية لسوريا تحت حكم الأسد الأب - القائد الملهم كما يسميه الراوي - ابتداءً من أزمة الثمانينات التي عصفت بالمجتمع السوري، و قسمته بين رجعي ممثلا بالأحزاب الإسلامية، و تقدمي ممثلا بقوى الثورة و البعث. واجه خلالها الثاني إرهاب الأول و قاعدته التي كانت تنمو بسرعة  ، بعنف غير مسبوق بين التعذيب والقتل والتدمير حتى لمدن بكاملها لتنتهي تلك الحقبة السوداء من عمر سوريا بدولة فاسدة و فاشلة ـ حسب رأي الكاتب ـ و مجتمع خائف و مسحوق انمحت فيه الطبقة المتوسطة و انتشرت الجريمة و الفساد الأخلاقي: 
" أخاف من تجمعات تقود إلى الهستيريا ، كأن يجتمع شباب و صبايا و يغنون بصوت واحد بعد مشاهدة فيلم سينمائي ، تقول أمي إن المخبرين سكنوا أوراق الشجر، توصينا بالصمت و هز رأسنا برضا كما بدأت تفعل بعد اختفاء زميلها مدرس الجغرافيا، مضيفة : ماذا تفعل الفئران حين تحاصرها المصائد ؟ تصمت. كل الناس صمتوا لدرجة أنهم أثاروا ملل الفروع الأمنية التي لم يعد لديها شيء سوى لعب طاولة الزهر ، و فتح ملفات مؤجلة استبق معظم أصحابها الاستدعاءات و هاجروا خارج البلاد. "    
يلخص الكاتب الواقع السوري بعد أربعين سنة من حكم البعث بأنه عار تاريخي يصفه إحدى أبطال الرواية ـ جان وهو أستاذ مسيحي عائد من المهجر للاعتناء بأمه العجوز، يُطرد من عمله لرفض ترديد نشيد الحزب ، يعيش بعدها علاقة ملتبسة و طويلة مع سوسن - في رسالة إلى ابنه في سويسرا: 
" يكتب جان لابنه بيير ، يشرح بإسهاب نظريته حول العار التاريخي ، يعيد رسم سكان مدينة واحدة يتقاسمون هواء مدينة واحدة خائفين من بعضهم البعض ، مسيحيون خائفين من المسلمين ، أقليات طائفية خائفة من الأكثرية ، و أكثرية خائفة من بطش الأقلية ، قوميات و أديان و طوائف خائفون من الرئيس و ضباط مخابراته ، و الرئيس خائف من أعوانه و حراسه ، و أعوانه يبحثون عن طرق مبتكرة للوشاية ببعضهم بعضا و تقديم ولائهم اللامتناهي ، ينكلون بأعدائه و يشون ببعضهم بعضا أيضا ، يرفعون الرئيس إلى مرتبة القداسة و الألوهة، رغم ذلك يبقى في قصره خائفا من حراسه، لا يجرؤ على السير في الشارع عشرة أمتار دون مئات الحراس رغم صور التأييد التي يبثها التلفزيون مرارا و تكرارا … يعيد جان الكتابة عن صورة طالباته الذليلات اللاتي يرددن نشيد حزب لا علاقة لأغلبهن به . عشن حياة متوازية و لم يلتقوا به ، كغرباء يتقاسمون الطريق و أرصفة المدينة … "  

تمكن خليفة من السيطرة على أفكاري و أحاسسي في أحاديث تشبه ما سبق في وصفة للحال السوري في حكم البعث، رغم أني قد لا أوافقه في السلبية المطلقة، إلا أني تفاعلت كثيرا مع ما أراد إيصاله من رسائل، الا انه فقدني حقا في ما عادة سواء طريقة السرد ، القصة و بنائها او الشخصيات و تتطورها. ابتداءً بالقصة و الشخصيات، فقد كانت الشخصيات بالنسبة لي بعيدة عن واقعنا العربي بشكل كبير فرغم إدراكي أن الفساد الأخلاقي والانحلال كان ولا يزال منتشرا في مجتماعتنا إلا أن تجتمع في عائلة واحدة كل تلك الشخصيات الغريبة لم يكن يصدق أو يستساغ، فالأم المتعجرفة و العنصرية التي تذهب بها عجرفتها لحافة الجنون، والخال المثلي، والعاهرة، والمهوس بعشق أخته، والإرهابي المتتطرف، بالاضافة إلى السلبية المطلقة و اليأس الذي لا ينتهي الذي تعيشه العائلة بكل أفرادها، بل و كل من يتعرف عليها ينتهي لعالم الفوضاء و الضياع الذي ينسب كله في النهاية لحكم البعث. كما أن الشخصيات الرئيسية كسوسن و رشيد و الأم باستثناء الخال نزار - مثلي الجنس الذي جاء تطور شخصيته متناسبا مع حركة الرواية و كان أقلهم سلبية - تعيش تقلبات كبيرة في حياتها و لا يقدم الكاتب تبريرا مناسبا لأي منها، أما شخصية الرواي فلا نعرف عنها شيئا أبدا، إلا أنها ولدت مع الانقلاب و عاشت حياة يائسة مستسلمة، لا تتغير دون توضيح لماذا؟ . العلاقة بين الشخصيات أيضا جاءت ملتبسة وغير منطقية، فاستقبالهم لأفعال بعضم البعض و اللامبالاة المبالغ فيها كانت غير منطقية و بعيدة عن تصرفات المجتمعات الشرقية، ربما كانت كناية عن اللامبالاة التي كان يعيشها المجتمع السوري في تلك الفترة فهناك بعض الإشارات لذلك في ذكر موقف المارة من تصرفات رجال المخابرات وفتيات حزب البعث. 

أما على مستوى السرد فقد جاءت الرواية على لسان أحد الأبناء إلا أنه يستمر في سرد قصص لا يتضح لدي كيف عرفها أو كيف وصلت إليه منها الوصف المبالغ فيه لكثير من المشاهد الجنسية بكامل تفاصيلها التي تعيشها أمه وأخته وخاله، وحتى الشخصيات الأخرى الثانوية. ولا أعترض هنا على الوصف بحد ذاته وإن وجدته في بعض الأحيان مبالغا فيه و لا يخدم المشهد الدرامي بقدر اعتراضي على وروده على لسان رواي الحكاية إذ كيف عرفه ـ it was so wierd. بالإضافة إلى ذلك فقد جاء النص مشتتا بالنسبة لي فبعض الأحيان يتقلب خلاله الرواي في حديثه من شخصية إلى شخصية كأن يبتدأ جملة بالحديث عن شخصية ثم يعترض حديثه ذكر لشخصية أخرى، و يستمر في الكلام عدة صفحات دون العودة إلى الموضوع الذي طرحه قبل الاعتراض. يجتمع كل هذا مع السودواية التامة و محاولة تصوير المجتمع السوري  بشكل عام كمجتمع تنتشر فيه الفساد و الجريمة و الانحلال الأخلاقي في محاولة من الكاتب ربما لتبرير المشهد الحالي.  

 أدرك أن الرواية كشخصية كاتبها مثيرة للجدل و ستجد جمهود عريضا يرفعها إلى مصاف روائع الأدب في مقابل أشخاص آخرين سيهاجمونها بقسوة و يتهمونها بالتخلع و الإباحية، أما أنا شخصيا فأجدني في المنتصف من هؤلاء جميعا لا أنحاز إلى طرف منهم رغم تفهمي لشيء من وجهات نظرهم. أخيرا تجدر الإشارة إلى أن الرواية وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام ٢٠١٤،م و ثار جدل عندما لم تفز بالجائزة الأولى خصوصا أنها فازت بجائزة نجيب محفوظ للآداب عن ذلك العام، و قد خسرت في مقابل رواية فرنكشتاين في بغداد، والآن و بعد أن قرأت الروايتين علي القول و بارتياح أنه شتان بين هذه و تلك، فرواية أحمد السعداوي هي الأفضل باعتقادي، و هي من المرات القلائل التي فاز فيها الأفضل باللقب الأكبر لتلك الجائزة.   
  
تقع الرواية في ٢٦٠ صفحة ، الطبعة الرابعة ٢٠١٤ عن دار العين المصرية…  
تقيمي الشخصي : ٧/١٠ 
القادم المجموعة القصصية تحت المظلة لنجيب محفوظ … 



حمود السعدي 

لمتابعة الجديد ارجو فتح حساب الأنستجرام: hamoodalsaadi

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة لرواية خان الخليلي لنجيب محفوظ

قراءة للمجموعة القصصية أكابر لميخائيل نعيمة

قراءة لمسرحية "السلطان الحائر" لتوفيق الحكيم