قراءة لرائعة نجيب محفوظ “ اللص و الكلاب “
انتهيت بالامس من قرأت ما اعتقد انه رائعة من روائع الادب ليس العربي فقط و انما الادب العالمي و هي بالتأكيد اروع ما قرأت منذ ثلاثية نجيب محفوظ ، قبل عام بالضبط . تتنطلق روعة الرواية من نجاح هذا الكاتب العبقري في طرح اسئلة فلسفية و اجتماعية و سياسية من خلال قصة انسانية غاية في الواقعية و البساطة ، و من نجاحه في تحويل قصة لص يحاول الانتقام ممن خانوه و زجوا به في غياهب السجون الى لمحاكمة لتيار سياسي كامل ادعى الثورية و نصرة للفقراء و كما لم يغفل عن ادانة الجانب الاخر و هو التيار الديني الذي يدعي ان حلول مشاكل الواقع تكمن في الهجرة الى قصص السماء ، بل انه تجاوز هذا وذاك و حاكم مجتمع بأكمله كان هو ـ اي اللص ـ المنتج الطبيعي له ، بل ربما البريء الوحيد الذي ظل حتى اللحظة الاخيرة محافظا على القيم التي امن بها بينما خانها الباقون من حوله.
تدور احداث الرواية حول سعيد مهران ، اللص المحترف ، الذي يعتقل بعد مؤامرة يشترك فيها مساعدة عليش مع زوجتة و ام ابنته التي تطلقه بعد محاكمتة للتزوج بمساعدة المتآمر عليش سدرة. تبدأ الرواية مع خروج سعيد مهران من السجن في عيد الثورة محملا بهدف واحد وفكرة واحدة و هي الانتقام ممن دبروا المكيدة له و زجوا به في غياهب السجن. يتجه سعيد مهران بعد خروجة من السجن الي بيته الاسبق الذي استحوذ عليه عليش سدرة كما استحوذ على زوجته و طفلته الصغيرة سنا ذات الخمسة اعوام ، عند وصله الى البيت يجد ان سدرة قد احظر مخبرا للدفاع عنه و لحمايته من الانتقام المحتم. يطلب سعيد مهران استعادة اموالة و ابنته و كتبه التي تركها في البيت ، الا ان عليش يرفض الاعتراف باى اموال له ، كما ان ابنته لصغيرة تنكره و ترفض الاعتراف به و تهرب من امامة ، مما يجعله يخرج من بيته محطم القلب ، بصرة صغيرة من الكتب ، وفكرة واحده اساسية تسيطر عليه و هي الانتقام من هؤلاء ليس من اجل خيانة الماضي فقط بل من اجل انكار ابنته له في الحاضر.
يقرر سعيد مهران ، المحطم و المنهار من وقع صدمة الرفض التي واجهته بها ابنته ، اللجوء الى صديقان قديمان ممن كان لهما التأثير كبير في حياته . الاول الشيخ على الجنيدي ، صاحب الطريقة الصوفي الجليل ، الذي كان والده احد اكثر و اوفاء مريديه ، و الثاني هو رؤوف المحامي الشاب الثوري المدافع عن حقوق الفقراء و الذي كان يبرر له اعمال السرقة و يصورها كنوع من الثورية و استعادة الحق بل كان يدله على المنازل الاستقراطية التي تستحق السطو. يبدا سعيد مهران بزيارة الشيخ ، لكنه و على الرغم من الاستقبال المقبول و التعامل الحسن الذي تعامل معه الشيخ ، الا ان سعيد لا يجد ظالته و خلاصة برفقة الشيخ الذي لا يقدم له حلولا واقعية لمشاكله ، وينصرف عنه الى اذكاره و دعائه الدائم فتكون اجابته عن مشكلاته فلسفية الدينية مبهة خصوصا له و هو الرجل البسيط.
يتجه بعدها سعيد مهران الى زيارة رؤوف الذي اصبح صحفيا كبير في جريدة شهيرة ، ليكتشف سعيد الانقلاب الكبير الذي اصاب صديقة القديم ، فالثوري اصبح برجوازيا يعيش في قصر كبير مملوؤء بالخدم ، و عندما يلتقي به امام قصرة يدرك حجم الهوة التي اصبحت بينه و بين صاحبة الذي يتنكر لك القيم الثورية التي ملؤء عقلة بها ، حينها يدرك فقط حجم خيبة الامل الكبرى فهو الوحيد الذي خسر كل شيء جرى تلك المبادىء خسر اموالة و بيته و بنته و اربع سنوات من حياته فتزداد غريزة الانتقام فيقرر قتل رؤوف و علوش و زوجته. يبدأ بعدها سعيد مهران رحلة الانتقام الى انها ايضا تكون مخيبتا لآماله ، بهذا القدر من الاحداث سأكتفي حتى لا احرم احدكم من متعة المفاجأة في اثناء قرائتها.
تسلط الرواية من خلال شخصيتي رؤوف و الشيخ علي الهوة الكبيرة بين تياران يتنازعان السيطرة على المجتمع العربي بشكل عام و المصري بشكل خاص ، خلال فترة الستينات من القرن الماضي ، و بين عامة الشعب ممثلة في سعيد مهران. و رغم الاختلاف الكبير و العدائي بين التيار الديني ممثلا في الشيخ علي و بين التيار اليساري الا ان كلا التيارين يفشلان في التصدي لمشكلات سعيد مهران الحقيقة و معهاا مشكلات المجتمع العربي ، فبينما يكتفي التيار الثوري بشعاراته الصورية في حين يسيطر قادته المتنفذون على مقدرات البلد و يتحول الثوريون المناظلون فيها الى نخبة برجوازيه متنفعة تعيش علي الشعارات التي ترفض الالتزام بها . في الوقت نفسه ، يعيش الاسلامين على الاوهام و الاساطير و الرؤي الغيبية التي وان كانت قريبة من القلب الا انه بعيدة كل البعد عن العقول و تعجز عن ايجاد حلول عملية لمشكلات المجتمع. تتضح الهوة الكبيرة بين التيار الاسلامي سواء اكان صوفي كما في الشيخ او تقليديا و بين المواطن البسيط و مشكلاته ومعاناته اليومية في الحوارات الرائعة بين الشيخ علي الجندي و بين سعيد مهران ، ففحين كان سعيد يشكي للشيخ ما حدث له ، اكتفى الشيخ بدعوة لأخذ المصحف و قرائته :
“ - خذ المصحف و اقرأ
غادرت السجن اليوم و لم اتوضأ …
توضأ و اقرأ
فقال بلهجة جديدة شاكية:
انكرتني ابنتي ، و جفلت مني كأني شيطان ، و من قبلها خانتي أمها !
توضأ و اقرأ
خانتني مع حقير من اتباعي ، تلميذ كان يقف بين يدي كالكلب ، فطلبت الطلاق محتجة بسجني ، ثم تزوجت منه …
توضأ و اقرأ … “
يستمر الحوار على هذا المنحنى دون جدوى و دون ان يخرج سعيد مهران بنصيحة حقيقة قد تفيده في ما حل به مما يعز احساسه بالضياع و يدفع الى حافة الهاوية في النهاية. هذا مشهد فقط من مشاهد متعدده يحاور فيها سعيد مهران الشيخ علي الجندي ، و فيها جميعا يشتكي سعد مهران هموم الدنيا التي تعصف به ليجد الشيخ يسبح في حلول بعيدة موجودة في السماء.
لا تتميز الرواية برمزيتها الرائعة و قصتاها الواقعية الانسانية فقط بل باللغة التي كتبت فيها و بالاسلوب الروائي التي صيغت بها ، فالرواية كتبت بطريقة تجمع بين صوت الراوي العليم و بين صوت الشخصية الرئيسية ، كما انها تجمع بين مشاهد الماضي المتخيل و الحاضر الامر الذي يمكن القارئ من تكوين صورة متكاملة للشخصية سعيد مهران ، و هي شخصية حية و حقيقة غاية في العمق و التركيب قل ما نجد مثلها في رواية قصيرة و رمزية كهذه الرواية. علي مستوى اللغة تتميز رواية اللص و الكلاب ككل ما كتب نجيب محفوظ بكونها فعالة ـ efficient ـ و بعيدة عن المبالغة اللغوية و البلاغة المصتنعه و التي بصراحة انفر منها كثيرا و هي منتشره بكثرة في بعض الكتابات الايام .
اخيرا ، اريد ان اكد ان ما كتبته هنا لا يعدوا ان يكون فهمي المتواضع لهذه الرائعة الادبية ، و في نهاية هذه الحديث المطول ، اريد ان اترككم مع عبارة من الرواية اعجبتني و هي ربما تمثل اهم ما جاء فيها و هي ضمن مشهد يتخيل فيه سعيد مهران محاكمته بعد ان يقبض عليه و قد اصبح ـ spoiller alart ـ مطارد و عليه جائزة بقيمة الف جنية
“ و فضلا عن ذلك فهم يؤمنؤن في قرارة انفسهم بأن مهنتك مشروعة ، مهنة السادة في كل مكان و زمان ، و ان القيم الزائفة حقا فهي التي تقدر حياتك بالملاليم و موتك بألف جنيه “
الرواية بطبعتها الجديدة نشرت عن دار الشروق ضمن مشروهم لإعادة نشر روايات نجيب محفوظ ، الطبعة الاولي للرواية منشروة ١٩٦١ ، و الطبعة الاولى للدار الشروق منشورة ٢٠٠٦ ، بين يدي الطبعة العاشرة ٢٠١٦م. تقع الرواية ١٢٨ صفحة.
تقيمي الشخصي: ١٠/١٠
مر ١٧٠ يوما و ٣٦ كتابا ، الكتاب القادم هي رواية المسرحية بعنوان “ الباب” للكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني.
تعليقات
إرسال تعليق