قراءة لرواية “ زرايب العبيد “ للروائية نجوى بن شتوان



انتهيت قبل عدة ايام من قراءة ثالث رواية من الروايات التي تشكل القائمة القصيرة لدروة هذا العام من الجائزة العالمية للرواية العربية ، البوكر ، و التي كانت بعنوان “ زرايب العبيد “ للكاتبة الليبية نجوى بنت شتوان ، كنت قد قرأت في البداية رواية الاولاد الغيتو ، ورغم انها لم تعجبني كثيرا الا انني رشحتها للفوز بالجائزة الكبرى بالنظر الى موضوعها ، بعدها قرأت رواية السبليات ، و هي رواية دخل روحي قبل عقلي لموضوعها الجديد و المهم ، و ايماني بأفضليتها في مقابل اولاد الغيتو الى انني كنت مدرك و انا انهي اخر صفحاتها انها لن تكون المنافس الذي يستطيع انتزاع اللقب من أولاد الغيتو. الان و بعد انتهائي من رواية زرايب العبيد ، ادرك ان الفوز لن يكون بتلك السهولة لرواية أولاد الغيتو ، كما ان القائمة القصيرة لهذه الدورة تتفوق بالجودة و التنوع بالمقارنة مع دورة العام المنصرم ، فعلى الرغم من حضور القضية الفلسطينية المعتاد تحضر السنة مواضيع اصيلة لم يطرق بابها الادب العربي بهذا الشكل الصريح من قبل ، و البيئة و الحروب ، تاريخ العبودية في الوطن العربي قبل الاستعمار و العنصرية في عهده  و المثلية الجنسية .     

في رواية زرايب العبيد تأخذك ، نجوى بنت شتوان ، بلغتها الرائقة و الجميلة الى عالم من اقسى العوالم و اكثرها ظلما في التاريخ العربي ، لتواجهه التاريخ العربي ما قبل الاستعمار و توجهه اصبع الاتهام له على ما ارتبكه خلال تلك الفترة من جريمة كبرى بحق الانسانية هي العبودية بكل تفاصيلها المره و القاسية . فنجوى ستوان ـ never shy ـ لا تخجل او تستحي من عرض الصورة القاسية للعبودية بكل تفاصيلها المرة و التي تكون في كثير من الاحيان كاسرة للنفس الا انها مهمة جدا بالنسبة للعالم العربي الذي يريد ان يغمض عينه عن جريمة من كبرى جرائمه و هي جريمة رغم عالميتها الا ان العالم العربي كان الاكثر من تمسك بها ، و الذي استمر في بعض المناطق العربية الى منتصف القرن المنصرم و لولا قوى الاستعمار الغربية لكانت العبودية مستمرة في عالمنا العربي حتى الان ، و لذلك للاسف فعلى النقيض من الغرب بقيت هذه الحقبة و هذه القضية مغيبة عن قصد او دون قصد من الوعي الجمعي العربي بدعوى معادة الاستشراق و افكاره الا اني اعتقاد بأن اعمال مثل هذه تلقي الضوء على تلك الحقبة و يكون ابطالها العبيد هي المفتاح الاول لمراجعة حقيقية يقوم بها الضمير العربي لتاريخ العبوديه في العالم العربي تستبعد متستقبلا ظهور اسواق جديدة للعبوديه و التسري بالنساء كما هو الحال الان في الرقة و الموصل. 

تنقسم الرواية الي قسمين رئيسين و امرأتين عشتا في فترة سوداية من تاريخ المجتمعات العربيه ، الاولى تعويضة العبدة للعائلة بنغازيه العريقة التي يقع سيدها الابيض في غرامها ، فلا يرى غيرها ، الامر الذي يستفز العائلة فيضيف الي معاناة تعويضية من الرق معاناة حقد العائلة و محاولتهم التخلص منها و اجهاض ما تحمله بين أحشائها كل مرة. المرأة الثانية ، هي عتيقة بنت تعويضة التي تولد من تلك العلاقة ، لكنها تجد نفسها تكبر في وسط زرايب العبيد خارج بنغازي ، وهو الحي المزري الذي عاش فيه الذي اعتقوا مع بداية الاستعمار الذي “ التي استبدلت عبودية البشر بعبودية الاوطان “. تعطي المرأتنا من خلال قصتهما المتداخلة صورة لحياة العبيد قبل انتهاء الرق و صورة للمجتمع الطبقي شديد التقسيم و الهرمية التي نشأ بعد انتهاء الرق. 

تتميز الرواية بقدرتها على تقديم صورة سينمائية للواقع المعاش بعيد عن المبالغة التي تفقد الاحداث تأثيرها و لكنها في نفس الوقت حادة و قاسية فلا تخجل او تتحاشي تقديم الصورة القاسية للحياة الرق في المجتمع الشرقي الاسلامي المحافظ. الشخصيات في الرواية شديدة التركيب و التعقيد و كل شخصية مهما كانت صغيرة او ذات تأثير محدود في مسار الرواية الا انها تحمل في طياتها وجهه انسانيا غاية في الواقعية ، ثلاثية الابعاد ، فالسادة الذي يرتكبون ابشع الفضائع اتجاه هؤلاء العبيد ليس مخلوقات فضائية شريرة غاية في الحقد و الكراهية و العنصرية بل هم شخصيات مركبة و واقعيه فهي مثلا غير مدركه للفضائع التي تتركبها لان تلك الجرائم كانت من طبيعة المجتمع ككل ، بمعنى اصح لم تكن تلك البشاعة جريمة في ذلك المجتمع و هنا يمكن نجاح نجوى بنت شتوان  وهو تحويل قصة تعويضة الى صورة بنورامية لمجتمع كامل غاية في القسوة و البشاعة لا ينظر للعبيد بمنظور يتعدى نظرة للحيوانته حتى ان مسكان الحيوانات و مسكان العبيد كانت تحمل نفسه الاسم “ الزرايب “.   

تحفل الرواية في فصولها بكثير من المشاهد القاسية و المعبرة ، الا ان هناك فصلان بالذات ، سيطرا علي و انا اقرائهما و اوصلاني الى لحظة من الالم لم اتوقع قبل اليوم ان رواية يمكن ان توصل قارئها اليه. الفصل الاول و يأتي في بداية الرواية حين تحكي احدي الخادمات المخضرمات رحلة الرق من اعماق افريقيا الي اسواق العرب في بنغازي و طرابلس و لان المشهد قمة من الالم و غاية في الاهميه خصوصا في مجتمعنا الذي ما للاسف لازال يتباكى على ايامنا في شرقي افريقيا و زنجبار و لذلك فقد وجدت انه يستحيل عليه تلخيصه و اختصاره فقررت ان اضع امامكم جزء منه: 

احتملوا المشي في الصحراء لأشهر طويلة ، كان عليهم ان يقطعوها سيرا على الاقدام من بلادهم الى بلاد التجار. ماتوا بسهولة لانهم لم يقاوموا الجوع و العطش و العراء. التصقت ارواحهم بجلودهم و خرجت منهم مع تكرار الجلد لحثهم على السير نحو طرابلس. ياه … إن طرابلس ليست قريبة ، الاخرة اقرب اليهم منها. 
ظلت بوقا تبكي لأيام اطفالا في القافلة تقول انهم تركوا يحتضرون في الصحراء وحدهم ، بعد ان شاركوا في الحفر و البحث عن بئر ردمتها العواصف. كانت الطفلة تبكي شقيقها الذي احتضر قبل وصولهم للماء بلحظات ، شاركهم الحفر و البحث بيديه المتينتين و كان رجاؤه ان يشرب ، لكن القافلة مستعجلة و عليها ألا تتوقف ، و الغربان تحوم و تنعق و عليها ان تأكل . الغربان وجدت رزقها ، الله يرزقها من حيث لا تحتسب هي الاخرى ، و قد مشى الطفل من حوض النيجر الى تيبستي من اجل ان يكون طعاما ورزقا سائغا لها … 
التفت بوقا لأخيها ، رأت الغربان تستدعي بعضها و تحط على رأسه تنقبه حيا ، بينما هم يبتعدون. اغمضت لها عينيها قتاة سوداء من قبيلة اخرى ، امتناعا عن رؤية من يموت منهم حتى و هم يموتون مثله في جزء قادم من الطريق - كان ذلك احد طقوسهم للعزاء. 
… 
تبكي متذكرة طفلا كان رزقا للطيور في الصحراء الليبية ، كآخرين سواه و لقرون مديدة … “ 
امام نص كهذا لا تصلح اي كلمة للتعبير و يبقى في الصمت الممتزج بالاسى و الحسرة اصدق تعبير قد يكتبه او يعيشه اي قارئ.

 كان هذا الفصل يمثل القمة السردية في رحلة الشقاء تلك ، امام الفصل الاخرى الذي تحدثت عنه فهو فصل يختصر بكل حرفية الحياة المريرة التي عاشها العبيد في بنغازي ، ففي هذا الفصل الموجع تتعرض تعويضة النفساء و رضيعها الحديث ابن العائلة المنكر الى اقسى انواع التعذيب حين تنسى تعويضة في غمرة تعبها و انهاكها رفع لحم خروف الوليمة التي ستقدم للاعيان غدا ، يفسد لحم الوليمة و تأكله القطط و هنا تحل المصبية على الخادمة المسكينة و صوحيباتها “ خرج السيد من غرفته كالشيطان . تناول سوطه و توجه به الى المطبخ “ ، لتبدأ رحلة الجلد و التعذيب التي تنتهي بتعويضة معلقة من رجلها في الحمام مع ابنها الرضيع في كرتون قريب منها. 

هزني هذا الفصل بكل ما فيه من مشاهد فبينما كانت الخدمتان تعذبان في المطبخ ، كانت سيدة البيت “ تذرع صحن البيت محتارة فيما سيفعلونه لترميم الوليمة ، فالوليمة مهمة جدا للاعيان “ ، و بينما كانت تعويضة تأن في الحمام و تستصرخ لاستنقاذ رضيعها العطشان الذي يكاد يموت من العطش ، كانت رفقائها من الخدم منهمكين في اعدا الوليمة “ و كأن شيء لم يحدث لرفيقتهن “ ، مشهد يختصر الرواية بل يختصر قصة العبودية ، ذكرني بمشهد من الفيلم الرائع ١٢ سنة من العبودية للمخرج البريطاني ستيف مكوين ، حيث يجد بطل الفلم العبد نفسه معلقا في شجرة يكاد يختنق لولا وقوفه على رأس اصابعه و يستمر العذاب في مقطع كامل دون اي قطع بينما يمر رفاقه العبيد حوله مستمرين في اعمالهم دون ان يستطيعوا حتى التفكير في انقاذه. 

اخيرا اتركم مع اقتباس من الفصل الاخير من الرواية ، و هو مقطع من حديث تصف فيه عتيقه بنت تعويضة و محمد لابن عمتها على بن شتوان الذي جاء يعترف بها قصة حياتها و نشأتها في هذه المدينة و تنظر الى زرايب العبيد حيث ترعرت و بنغازي حيث عملت و عاشت امها و حيث عشق محمد بن شتوان امها تعويضة ، المدينة المتناقضة،  التي انتجت عتيقة المرأة المولوده من تناقض هذه المدينة الصارخ:

انا محطة الرق الاخيرة حيث توقفت آخر القوافل و دارت الدماء و امتزجت في الشراين. هنا تكونت من كل شيء من الرق و العتق ، من الماء و الملح ، من الذل و الحرية ، من الشمس و التراب ، من الجوع و الظمأ ، و من الارتواء و الشبع ، من نظافة بنغازي و قذارتها ، و من جفافها و حنانها ، من دمعها و دلالها ، من دوالي عنبها و كروم تينها ، من اسوارها القصيرة و مجونها و تعاليها ، و مائها و تلالها ، و من لهجتها الغارقة في الدلال ، من صوتها المتشج بالجلال ، من نسقها المتشح بالتيه ، من مرسكاويها و بغداديها ، من صوامعها المكبرة و نواقيس كنائسها المترنمة و قباب رقودها الصالحين ، و دفوف عبيدها الصادحة بالألم و الامل . هنا نشأت حكايتي و اتسعت . اانا ابنتها ام هي ابنتي ؟ لا فرق ! 
… 
كلانا كان للآخر ضوء منارة لسفينة في حالة ضياع. كلانا لا يختلف عن منارة اخريبيش، لكي تضيء ، لابد أن يحيطها الظلام  “  

الرواية منشورة دار الساقي ، الطبعة الاولى ٢٠١٦م. تقع الرواية ٣٥٠ صفحة. 
تقيمي الشخصي: ٨.٥/١٠ 

مر ١٨٧ يوما و ٣٩ كتابا ، القادم هو رابع الروايات المترشحة للقائمة القصيرة لهذا العام بعنوان في غرفة العنكبوت للروائي المصري محمد عبدالنبي . 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة لرواية خان الخليلي لنجيب محفوظ

قراءة للمجموعة القصصية أكابر لميخائيل نعيمة

قراءة لمسرحية "السلطان الحائر" لتوفيق الحكيم