قراءة لرواية مدن الملح: التيه لعبدالرحمن منيف


 


 

لعله ليس من المبالغة القول أن سلسلة روايات مدن ملح هي أشهر سلسلة روائية عربية وأكثرها احتفاء بعد ثلاثية نجيب محفوظ في الأوساط الثقافية العربية خصوصا من مثقفي البلدان العربية غير النفطية  مصر وسوريا وفلسطين.  وكثلاثية نجيب محفوظ التي قدم فيها محفوظ التحولات الكبرى الثقافية والاجتماعية والسياسية التي عاشتها مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين يقدم عبدالرحمن منيف في روايته مدن الملح رؤيته عن التحولات الكبرى التي شهدتها الجزيرة العربية خلال النصف الأول من القرن العشرين أو بالأحرى منذ اكتشاف النفط في منطقة الخليج.  

 

على أنه وعلى الخلاف من ثلاثية نجيب محفوظ التي تقدم التاريخ من خلال التطورات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها عائلة واحدة خلال ثلاثة أجيال، فإن منيف يقدم تاريخ الجزيرة العربية من خلال التطورات العاصفة التي تعيشها قريتين متخيلتين في الصحراء العربية: وادي العيون وهي واحة تقع وسط الصحراء تكون أولى المناطق التي يكتشف فيها الأمريكان النفط في الجزيرة، وحران القرية الساحلية المعزولة التي تصبح أول ميناء نفطي في الجزيرة. فالشخصيات المحورية تنعدم في الرواية تقريبا خصوصا في نصفها الثاني وتصبح المدينة وتحولاتها هي محور الرواية، أما الشخصيات التي تظهر وتختفي سريعا فليست سوى شخصيات هامشية يقدم من خلالها منيف المأساة الإنسانية التي جلبها اكتشاف النفط ـ من وجهة نظره ـ على المنطقة وأهلها، ابتداء من التهجير القسري وانعدام التعويضات في وادي العيون مرورا بالتهميش والظلم في المعاملة والعمل في الشركات الجديدة التي أخذت تحتل المنطقة شيئا فشيئا. 

 

يقع منيف من وجهة نظري في الجزء الأول من سلسلته الروائية  التيه -  في إشكاليتين رئيسيتين واحدة على المستوى الفني والأخرى على المستوى الموضوعي، فعلى المستوى الفني يؤدي تركيز الكتاب على القريتين خصوصا في نصفها الثاني  - أي في حران  - كمحور لتحرك الرواية إلى تهميش الشخصيات الإنسانية، الأمر الذي يعزل تلك الشخصيات عن القراء فقد منعني ـ شخصيا ـ من تكوين أي صلة عاطفية أو حتى اهتمام بتلك الشخصيات التي لا تظهر إلا لتختفي وينعدم فيها التغير تقريبا، كما أنها في الأغلب الأعم تتصف بشيء من السطحية والكرتونية فهي إما متزلفة للإمارة والزوار الغرباء وإما معادية للحداثة والتطور والتغير بصورة كلية دون أي وسطية. 

 

وقد يقول قائل إن تلك المسافة التي يخلقها منيف بين القارئ وشخصياته ما هي إلا تأكيد لحالة العزلة والاغتراب التي يعيشها الإنسان في تلك المدن  مدن الملح  حيث أن الإنسان في هذه المدن يعيش على الهامش حيث تزيد أهمية العمران في هذه المدن عن أهمية تطوير الإنسان ولعل هذا ما يفسر الاختلاف الكلي للجزء الأول من الرواية الذي تدور احداثه قبل وصول الأمريكان. 

 

فبداية الرواية كانت حقا متميزة حيث قدم فيها منيف شخصيات غاية في التعقيد والتركيب من المعارض الشجاع عاشق التقاليد "متعب الهذال" إلى زوجته "وضحه" وأخوها هديب وممثل الأمير في وادي العيون ابن راشد كلها شخصيات متميزة أعطت الرواية زخم كبير في بدايتها وظل ظلها المحرك الرئيسي لي لمتابعة القراءة بشغف على أمل اللقى بأحدهم في القادم من الرواية إلا أن هذه الشخصيات كلها اختفت فجأة في نهاية النصف الأول من الرواية ودون مبرر أو نهاية موضوعية تحسم قسمهم من القصة لتبدأ حكايات حران المدينة ومن مر عليها من شخوص كانوا في أغلبهم أقل جاذبية وأهمية من شخصيات وادي العيون. 

 

هذا على الجانب الفني أما على الجانب الموضوعي  وهذا طبعا من وجهة نظري  وقع منيف في فخ الأحكام المسبقة والنظرة السلبية التي حملها المعسكر اليساري في العالم العربي على النفط حينما قرنوا اكتشاف النفط فقط بالنفوذ الأجنبي في منطقة الخليج وبداية الأنظمة الملكية الشمولية التي تعاملت بشيء من التجاهل مع القضايا العربية الرئيسية ليصبح النفط واكتشافه وإنتاجه مرادف لديهم للهيمنة الأمريكية والاستعمار الجديد للمنطقة متجاهلين في الوقت ذاته النتائج الإيجابية الكبرى التي أحدثها اكتشاف النفط على المنطقة وأهلها من انتشار للتعليم ومجانية الصحة وخروج شعوب المنطقة من براثن الجهل والظلام إلى مصاف العالم الحديث.

 

الحقيقة انني لا أدري ما الذي كان يتأسف عليه المنيف وغيره من مثقفي العالم العربي عند الحديث عن الجزيرة العربية ما قبل النفط وقيام الدول الحديثة بكل تلك الحسرة والحنين: هل هو عالم الجهل والموت والأمراض؟ هل هو عالم الغزو والثارات بين القبائل؟ أم هو غياب الهيمنة الأجنبية؟! ألم تكن الجزيرة العربية أصلا بل الوطن العربي كله ينزح تحت الاستعمار والهيمنة الأجنبية منذ مئات السنين قبل النفط! اعتقادي الشخصي أن موضوع النفط واكتشافه وتأثيره على منطقة الخليج يستدعي ويتطلب قراءة أكثر حداثة وشمولية من تلك التي قدمها المنيف في الجزء الأول من سلسلة مدن الملح.

 

هذا بالطبع لا يقلل من أهمية هذا العمل الملحمي الكبير الذي تميز بواحد من أجمل العناوين الأدبية وأكثرها ذكاء، بالإضافة إلى اللغة البراقة والجزلة والساخرة التي يكتب بها المنيف، والتي تميزت بالسلاسة والبعد عن التكلف والتصنع الأمر الذي جعل التجربة اجمالا تجربة ممتع ومرضية. هذه كانت تجربتي الأولى مع أدب المنيف والأكيد أنها لن تكون الأخيرة.            

 

بين يدي الطبعة العربية السادسة عشر ٢٠١٨ عن دار التنوير والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، تقع الرواية في ٦٢٣ صفحة.  

 

تقيمي الشخصي: ٨/١٠


القادم المجموعة القصصية ثلاث قصص جبلية لمحمود الرحبي 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة للمجموعة القصصية أكابر لميخائيل نعيمة

قراءة لرواية خان الخليلي لنجيب محفوظ

قراءة لكتاب الهويات القاتلة لأمين معلوف