قراءة لرواية السبيليات للروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل
في رحلة الـ ١٠٠ كتاب اقف اليوم على الكتاب رقم ٣٤ و هو الرواية الثانية التي اقرائها من الروايات التي وصلت للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية البوكر لهذا العام ، و التي اتمنى ان انهي قرائتها قبل الاعلان عن الفائز بالجائزة الكبرى في منتصف الشهر القادم. على ان الاكيد من وجهة نظري حتى الان ان الرواية التي انهيت قرائتها بالأمس قد لا تكون المرشح الاوفر حظا بالفوز بالجائزة الكبرى خصوصا امام رواية اولاد الغيتو التي قرائتها قبل اسابيع او رواية موت صغير التي اتطلع الى قرائتها قريبا و ذلك لصغر حجمها من جهة و بعد موضوعها عن الموضوعات الساخنة المطروحة حاليا على الساحة العربية ، على انني و رغم ذلك متأكد بأن اي قارئ منصف سيجد ان هذه الرواية اقرب الى قلبه و عقله من رواية اولاد الغيتو بمراحل.
تدور احداث رواية السبيليات و المعنونة ايضا بـ “ ما لم يرد ذكره من سيرة حياة أم القاسم “ خلال السنوات الاولى من الحرب العراقية - الايرانية و تتمحور حول امرأة عظيمة ترفض الهروب من قريتها و تتمسك بالحياة في بيتها رغم اهوال الحرب و مخاطر القصف العشوائي التي يهدد قريتها الكائنة على شط العرب و في مرمى النيران. تبدأ الرواية بتمهيد مهم و خدعة معروفة حيث يتلقى كاتب الرواية رسالة من صديق له يعمل في جريدة الرأي الكويته تقول له انه عندما دعي هذا الأخير مع مجموعة من الصحفين العرب بعد الحرب في نهاية ١٩٨٨ لمشاهدة الاثار المدمره لها ، استغرب من وجود بقعة خضراء اشبه بـ “ واحة الغناء لا يتجاوز عرضا كيلومترين “ وسط “ غاب النخيل الذي تحول سعفه الى اللون الاصفر “ ، و عندما تسأل عن المنطقه قيل له تلك هي السبيليات و التي يعلم انها مسقط رأس كاتب الرواية و لذلك فقط طلب منه “ ان يكتشف السر ذلك الشيء “ بما انها مسقط رأسه.
تنتقلك الرواية في أول مشاهدها عند سيارات الجيش التي تحمل المكبرات و هي تجوب شوارع السبيليات مع احتدام المعارك على الجبهة مطالبتا السكان باخلاء منازلهم و الانتقال الى مناطق الآمنة خارج الحدود. تستجيب العائلة الكبيرة مرغمة ، ام قاسم و ابو القاسم و ابنائهم و احفادهم و حميرهم التسعة ، امام التهديد بالعقاب رغم الامتعاض الشديد التي تبديه ام القاسم من قرار التهجير. تضطر الاسرة حفاظا على حميرها للهجرة على الاقدام ، الا ان اليوم الثالث من الرحلة يشهد موت ابو القاسم المفاجئ ، الذي يدفن على عجل بين نخلتين على مشارف الناصرية. تستقر العائلة في مخيمات اللاجئين عند مقبرة النجف الاشرف ، تعيش خلالها ام القاسم اصعب لحظات عمرها بين الحنين للبيت و القرية و بين الم فراق زوجها و رفيق دربها ابو القاسم.
بعد سنتين من الغياب ، تقرر ام القاسم العودة الى قريتها و تضمر المرور بقبر ابو القاسم في طريقها و نقل جثمانة لدفنه بالقرية. تتسلل ليلا الى زريبة الحمير و تنتقي حمار زوجها المفضل الذي اسماه قدم الخير، و تخرج فوق حمارها قافلة الى السبيليات. بعد ايام من السفر تصل الى مشارف الناصرية ، حيث يلتقي بها أولادها الذي اخذوا يبحثون عنها في كل مكان. تخبرهم المرأة بما عزمت عليهم و تسألهم مساعدتها في نبش القبر و السماح لها بأخذ العظام و ما تبقى منها لتدفن في القرية بناء على وصية ادعت ان ابو القاسم اوصها في منامها. يلتزم الابناء بوصية ابيهم و يساعدوا امهم في اخراج ما تبقى من ابيهم و يسمحوا لها مرغمين بالعودة و حدها الى القرية. تصل ام القاسم الى قريتها التي اصبحت معسكرا لأحدى فرق الجيش الخلفية ، لتشاهد بنفسها الكارثة التي حلت على القرية و خصوصا مزارعها التي ذبلت و جفت من جرى سد الانهار التي تغذي تلك المزارع خوفا من تسلل الضفادع البشرية الايرانية الى ما وراء الخطوط. تكتشف الفرقة وجود ام القاسم بينهم و بعد مفاوضات شاقة يسمح الضابط المسؤول لام القاسم بالبقاء مدة لا تتعدى العشرة ايام لتدفن زوجها و تقرأ على قبرة ، تستسلم المرأة العجوز للقرار مرغمة و هي تضمر البقاء في قريتها لتعيش خلال تلك الفترة خطر الاجلاء و الطرد الى جانب اخطار الحرب و اهوال المدافع و القصف العشوائي. تبدا عندها علاقة افراد الفرقة بام القاسم بدا من نائب الضابط صادق الى العسكري جاسم ، الفلاح الفاوي اليتم ، التي يعتبرها مثل امه . تبدا ام القاسم بتفقد القرية و يحزنها الحال التي وصلت اليه مزارعها و بساتينها فتجتهد في استصلاح ما يمكن استصلاحه ، بل يصل الامر بها الي محاولة تخريب السدود التي بنها الجيش لاجل ان يصل الماء للمزارع اليابسة. هذا فقط اختصار موجز عن الرواية و هي يغطي الفصول الأولى فقط و سأكتفي بها حتى لا احرق عليكم متعة قراءة الرواية.
كما يتضح من الاختصار الذي تقدمت به ، تركز الرواية في معظمها على عبثية الحرب و الدمار و النتائج الكارثية التي تنتجة و لكن ليس على الانسان فقط كما يقدم الاعلام و معظم الكتابات السياسية و الادبية بل تركز على نتائجها الكارثية على البيئة بالشكل الاساسي من نبات و حيوانات ، فالاشجار حاضرة في الرواية و بقوة من شجرة النبق ، الى النخيل و التفاح و التوت و الحيوانات حاضرة كذلك من الطيور التي تجول السماء الى الضفادع التي تسكن المستنقعات، هذا بالاضافة الى العلاقة الحميمية بين ام القاسم و حمارها قدم الخير و هي احتفاء بعلاقة فريدة قل ما نجدها في الادب العربي. تعيش ام القاسم علاقة مع كل هؤلاء و تنتصر لهم جميعا و تقف من أجلهم شامخة في وجهة الرصاص و المدافع و تهديد الطرد و الأجلاء.
على ان شخصيتها كتبت رغم عظمت ما تقوم به بصورة انسانية رائعة بعيدا عن التفخيم و العنترية فهي المرأة البسيطة المحبة للزوجها الراحل و التي تحلم به في كل ليلية يحكي و لها و تحكي له و تصدق كل ما يقول لها ، و هي الانسانة الرقيقة التي تفزع من صوت القنابل و المدافع فتحتمي بقبر ولي القرية من القصف العشوائي ، صورة انسانية قمة في الروعة و الواقعية . الشخصيات العسكرية كذلك فالضابط رغم قسوته التي يظهر بها يحمل لها الود و يأمر مجندية بمساعدتها في مشاريعها الزراعية الصغيرة ، و كذلك الامر ببقية العساكر الذي يحترمونها كأم و امرأة حكيمة فيساعدونها محبةو ليس التزاما بالاوامر فقط.
لا تتميز الرواية فقط بموضعها الفريد الذي يتحدث عن البيئة و لا بشخصياتها المركبة و العمقية ذات الأبعاد المتخلفة ، بل انها تتميز بأسلوب سردي فريد يختلف عن ما عهدته سابقا ، فالرواية ملتزمة الالتزاما كليا بأم قاسم اما الشخصيات الاخري فرغم اهميتها الا انها لا تتحدث و لا تظهر وحدها بل كلها من وجهة نظر و صورة ام الخير . اسلوب الكتابة اشبه بعمل وثائقي تتبع فيه الكاميرا شخصية واحده بعينها و تتابعها خلال فترة معينه و هو اسلوب فريد لم اقرأ مثل سابقا ـ هذا لا يعني عدم وجده سابقا فهذا امر لا علم لي به. ذكرني الاسلوب السردي بالفلم الهنغاري الشهير “ son of soul “ و الذي حاز على جائزة الاوسكار لأفضل فلم اجنبي العام الماضي و الذي يدور عن جرائم النازية على يهود هنغاريا حيث تركز الكاميرا مع معظم الوقت على الشخصية الرئيسية للفيلم بينما يتحرك الباقون من حوله في الصورة ، بهذا الاسلوب السينمائي الرائع ينقل لنا الروائي اسماعيل فهد مشاهد روايته الرائعة. اخيرا تجدر الاشارة و لو سريعا الي مشاهد الاحلام الرائعة التي تستحضر خلالها ام القاسم زوجها الغائب او لحظات المناجاة العتاب التي تقف فيها على قبرة و تحدثه.
في النهاية ، و الرغم اني لم اقرأ سواء روايتين من الرواية المرشحة لهذا العام و امامي مشوار من اربعة روايات الا اني اتمنى فوز هذه الرواية ليس لشخصيتها الفريدة او اسلوبها السردي البديع و لكن ايضا للموضوعها المختلف البيئة و الحرب الضحية التي قليلا ما يتحدث عنها في آلام الحروب.
الرواية منشورة نوفل بلس للنشر و التوزيع ، الطبعة الاولى ٢٠١٦م. تقع الرواية ١٦٢ صفحة.
تقيمي الشخصي: ٨.٥/١٠
مر ١٥٧ يوما و ٣٤ كتابا ، القادم هو الرواية بجائزة السلطان قابوس للآداب “ نارنجة “ للكاتبة العمانية جوخه الحارثي.
تعليقات
إرسال تعليق