قراءة نقدية لرواية صخب البحيرة للاديب المصري محمد البساطي
انتهيت بالامس من رواية انتقيتها من القائمة الثرية التي منحنا ايها اتحاد الكتاب العرب لأفضل مائة رواية عربية ، رواية صخب البحيرة ، و هي الرواية الثانية التي اقرائها للاديب المصري محمد البساطي بعد رائعته “ الجوع “ . غير اني اكتشفت و بعد انتهائي من فصلها الأول المسافة البعيدة بين رأي قارئ بسيط مثلي واراء النقاد فلو كان الاختيار بيدي لاخترت بكل سهولة ويسر رواية “ الجوع “ على هذه الرواية و لما اخترت هذه الرواية اصلا ضمن افضل مائة رواية عربية. على ان هذا بالطبع لا يعني تدني مستوى الرواية بشكل كامل ؟ لا ، فهناك الكثير فيها مما يمكن الاعجاب به الا انها بالتأكيد ـ من وجهة نظر قارئ البسيط مثلي ـ لا تضاهي روعة رواية “ جوع “ التي رشحت ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام ٢٠٠٩ ، و التي اعتقد انها واحدة من افضل الروايات التي وصلت لهذه القائمة طوال تاريخ الجائزة.
لا يخرج محمد البساطي كما في روايتة الجوع عن هموم المهمشين جدا في المجتمع المصري ، فالرواية لا تحكي قصص كبرى للصراعات الاجتماعية او السياسية التي تعيشها المنطقة ؛ انما هي ببساطة حكاية الانسان المصري المهمش و المهمل في الأدب العربي . على انه وعلى خلاف رواية “ الجوع “ ، للمكان وهو البحيرة هنا الحضور الطاغي و يمكن القول انها البطل الحقيقي للرواية فهي الجامع الاساسي للشخصيات الرواية ، و الشاهد الاساسي على معاناة هذه الطبقات المعدمة من المجتمع المصري. تنقسم الرواية الى ثلاث قصص اساسية: الصياد العجوز ، النوة و البراري ، لكل منها شخصياتها المستقلة التي تختفي مع نهاية الفصل، الامر الذي يعطي القارئ انطابعا انه امام مجموعة من القصص القصيرة يوحدها المكان اكثر من كونها رواية متكاملة . ليس هناك الكثير مما يمكن قوله عن شخصيات الرواية او قصص كل منها لان الرواية القصيرة بصراحة لا تمنحك فرصة حقيقة لمعرفة الشخصيات جيدا او تكوين انطباع عنها ، الا اني ساحاول في السطور القادم تقديم نبذه سريعة عن هذه الفصول و انطباعي حولها.
في الفصل الاول من الرواية “ الصياد العجوز “ يحكي الراوئي قصة علاقة صياد عجوز يجهل اهل القرية المحيطة بالبحيرة هويتة - يقضي معظم وقته في قاربه الاسود الغريب - بأرمله تبيع سمكه في سوق احدى القرى و ابنيها التوأم . يقدم الفصل الاول بداية لقصة البحيرة و علاقتها بالانسان البسيط ؛ ففي هذا الفصل يكون العجوز والمرأة اول المستعمرين لشاطئ البحيرة الامر الذي سيختلف في الفصول القادمة مع بداية الزحف السكاني على البحيرة.
يحكي الفصل الثاني من الرواية المعنونة “ بالنوة “ اي العاصفة قصة جمعة وامرأته التي اعتادت أن تخرج مع كل عاصفة الى شاطئ البحر للالتقاط ما قد يجود عليها البحر من كنوز ، تستخدم المرأة المعدمة ما قد يفيدها منه و تبيع و زوجها الباقي في سوق المدينة . الا أن حياة الزوجين المستقرة نسبيا ، تنقلب جحيما حين تعثر الزوجة على صندوق موسيقى عجيب يطلق اصوات بلغة غريبة يعجز المتعلمون عن فهمها ؛ حيث يصبح جمعه مهوسا بهذا الصندوق الذي يأخذه تقريبا الى حافة الجنون قبل أن يختفي عن القرية و زوجته في ظروف غامظة.
في الفصل الثالث من الرواية ، البراري ، نتعرف على كرواية صاحب المقهى و عفيفي صاحب الدكان التي تجمعها صداقة عجيبة وقوية بالاضافة الى معانتهما الموسمية من هجمات مجموعه من المهمشين القادمين من جزر البحيرة والذين يقومون بالسطو على القرية و ترويع اهلها في اثناء العواصف وغالب ما يكون دكان عفيفي ومقهى كراوية وجهتهم الأساسية. يحاول الصديقان التوصل إلى تفاهم مع هؤلاء المهمشين عن طريق رشوتهم ، فيزورا الجزر واحدة واحدة ومعهم ماعز وصندوق مملوء بالحلاوة إلا انهم يختفيا فجأة من القرية و تسري الشائعات انهم شوهدوا مع المهاجمين في احدى العواصف . اخيرا في الفصل الاخير للرواية والذي يتكون من ورقة واحدة فقط يعود من خلالها الروائي بالمرأة وولديها من قصة الصياد العجوز الى شاطئ البحيرة لنبش قبر الصياد العجوز واخذ رفاته مع صندوقه الذي يدفن معه.
كما اسلفت سابقا ، كان المكان وهو هنا البحيره هو الجامع الأساسي لشخصيات الرواية في فصولها الاربعة غير أن شخصيات الرواية تتقاطع ايضا في عدة مواقف أولها موضوع الصندوق فالصياد العجوز كان يتنقل ومعه صندوقه ، وجمعة اصبح الصندوق العجيب همه الوحيد، وفي قصة عفيفي وكراوية هناك هوس عفيفي بالتقاط علب الحلاوة التي يسرقها المهمشين ثم يرموا باقيها في البرك المتكونه من جراء العاصفة. بالاضافة الى الصندق هناك قصة اختفاء كل منهم لعدة سنوات ثم عودتهم فقط ليموتوا دون الاشارة الى اسباب هذا الاختفاء او اسباب تلك العودة . و اخيرا هناك الموت الذي يجب ان تنتهي معه هذه القصص ؟ و لماذا وجد الروائي نفسه مضطرا الى تلك النقلة الى مشهد الموت لكل من شخصياته الرئيسية. الاكيد بالنسبة لي أن الرواية محملة بالكثير من الرموز إلا أنه لا بد لي من الاعتراف انها لم تصلني ابدا و هذا قد يكون خطئي او خطأ صاحبها ، فما المقصود بالصندوق ؟ و لماذا الهوس به ؟ ، ثم ما معنى ذلك الاختفاء العجيب ؟ و لماذا الموت الحاضر في نهاية كل مشهد ؟ ثم اخيرا من هم هؤلاء البدائيين الذين يهاجمون القرى مع كل عاصفة ؟
كما اسلفت هناك الكثير من الاسئلة التي تركها الكاتب مفتوحة في الرواية الامر الذي يجعلها في كثير من الاحيان “ annoyingly unsatisfactory “ غير مرضية بشكل مزعج ، إلا أن ما قد يغفر لهذا و ينسيك اياه تلك اللغة الساحرة التي كتبت بها الرواية و التي تأسرك من اللحظة الأولى و منذ المشهد الاول الذي يصف فيه الروائي صورة البحيرة و المضيق التي تلتقي فيه مع البحر الواسع:
“ تكتسح أمواج البحر المضيق ، يتردد صخبها عميقا في المجرى ، تستكين لها مياه البحيرة المرتعشة ، يسفر التلاحم عن بريق ورذاذ ، ورغوة معتمج تطفو بحذاء الشاطيء الطيني ، و فقاقيع صغيرة تتناثر مظطربة ، و اسماك بلون الفضة تقفز و قد طوت زعانفهل تأخذ قوسا و كأنما لتعبر الملتقى الصاخب ثم تغوص مرة أخرى “
تنتصر اللغة في نص محمد البساطي بجملها البسيطة المعبرة و البليغة على الدارما والشخصيات وتصبح الجاذب الاساسي الذي يجعلك تنتطلق و تسمو بصحبتها …
الرواية بطبعتها الجديدة منشورة عن دار الاداب ، الطبعة الاولى ٢٠٠٩م. تقع الرواية ١٨٤ صفحة.
تقيمي الشخصي: ٧/١٠
مر ١٥١ يوما و ٣٢ كتابا ، الكتاب القادم هي رواية الرولة للصحفي و القاص العماني يوسف الحاج.
تعليقات
إرسال تعليق