قراءة في رواية الكرنك لنجيب محفوظ
بعد أكثر من خمسةٍ وعشرين عملًا
قرأتها لنجيب محفوظ، ما بين الرواية والقصة القصيرة، أجدني – وللمرة الأولى – أمام
نصٍّ لا يستهويني على مستوى الفكرة والموضوع، لا بسبب ضعفٍ في أدواته الفنية، بل
بسبب ما انطوى عليه من مباشرةٍ أضرت بعمق التجربة، وأفقدت العمل كثيرًا من توهجه
المعتاد.
فرواية الكرنك،
التي كُتبت ونُشرت في أعقاب وفاة جمال عبد الناصر، تنشغل بقضية «زُوّار الليل»؛ أي
ممارسات الأجهزة الأمنية من اعتقالٍ وتعذيبٍ وتغييبٍ قسري، وهي قضية لا يمكن
إنكارها تاريخيًا، غير أنها – في رأيي – عولجت في هذا النص ضمن مناخٍ سياسي وثقافي
سعى، بعد رحيل عبد الناصر، إلى محاكمة عصرٍ كامل، لا تفكيك ظواهره بعينٍ نقدية
متزنة.
تدور أحداث الرواية حول مجموعة من
الشبان يرتادون مقهًى متواضعًا في أحد أحياء القاهرة يُعرف بـ«مقهى الكرنك». ويقوم
السرد على راوٍ بلا اسم، لا يؤدي دورًا فاعلًا في تشكيل الحدث بقدر ما يكتفي
بتسجيل ما يراه ويسمعه داخل المقهى، والإنصات إلى اعترافات رواده وصاحبته عن
تجاربهم القاسية في المعتقلات.
يقسّم نجيب
محفوظ الرواية إلى فصول تحمل أسماء شخصياتها: قرنفلة، صاحبة المقهى والراقصة
السابقة في زمنٍ اندثر؛ إسماعيل الشيخ، الشاب المتحمس للثورة؛ زينب، حبيبته؛ ثم
خالد صفوان، الشخصية الغامضة التي تحوم حولها الأحاديث قبل أن تتجسّد أخيرًا
بوصفها رمز السلطة القامعة والضابط المسؤول عن التعذيب.
تحكي الرواية، في جوهرها، عن اختفاء
هؤلاء الشبان المتكرر، وما يتعرضون له من تعذيبٍ وسحقٍ معنوي داخل المعتقلات، وعن
خيبة جيلٍ آمن بالثورة وشارك في حلمها، قبل أن يُقصى ويُنكّل به حين تجرأ على
الاختلاف. إنها رواية عن الحلم النقي الذي التهمته آلة السلطة، وعن جيلٍ أُكل من
الداخل باسم الوطن.
تبدأ الكرنك بدايةً جذابة؛
فشخصيات المقهى نابضة بالحياة، وحواراتهم ذكية، تستحضر الماضي وتناقش الحاضر
وتستشرف المستقبل. غير أن الرواية، ومع تقدّم فصولها، تنزلق – على غير عادة محفوظ
– إلى خطابٍ مباشر، يكاد يجرّد السرد من توتره الدرامي، ويجعل الأحداث متوقعة، بل
ومكشوفة، إلى حدٍّ يفقد القارئ عنصر الدهشة. ولعلها – في هذا المعنى – أول رواية
لمحفوظ أشعر فيها بانعدام المفاجأة، وبفتورٍ في الإيقاع لا يعوّضه اهمية الموضوع.
وقد يُعزى هذا النفور، خطأً، إلى
موقفي من نقد العهد الناصري، وهو افتراض غير دقيق؛ فأقرب أعمال محفوظ والحكيم إلى
نفسي هي تلك التي انتقدت ذلك العهد بعمقٍ فنيٍّ وإنساني، مثل ثرثرة فوق النيل،
واللص والكلاب، وحديث الصباح والمساء، وبنك القلق ، غير أن الفارق
شاسع بين نقدٍ يُنتج أدبًا، ونقدٍ يتحوّل إلى خطاب. فالاعتراض هنا ليس على الموقف،
بل على بنية الرواية نفسها، وعلى نهايتها الفجّة التي تجمع الجلاد بضحاياه في
المقهى ذاته، في مشهدٍ رمزي مباشر يفتقر إلى الإيحاء الذي عُرف به محفوظ .
ختامًا، ورغم هذا النقد، يظلّ الكرنك – في المحصلة
العامة - عملًا أدبيًا معتبرًا إذا ما قورن بكثيرٍ مما كُتب ويُكتب اليوم، غير أن
هذا التقييم يظل مشروطًا بسياق المقارنة مع منجز نجيب محفوظ نفسه، لا مع غيره.
تقيمي الشخصي: 7/10
يقع الكتاب في 94 صفحة، بين يديّ
الطبعة الخامسة الصادرة عن دار الشروق عام 2018. نشرت الرواية لأول مره عام 1974.

تعليقات
إرسال تعليق