قراءة لرواية أنشودة المقهى الحزين لكارسن ماكالرز
عن الوحدة والحرمان والإجحاف والتحيزات المسبقة تتحدث رواية أنشودة المقهى الحزين ذات العنوان المميز لواحدة من أهم كتاب كوثيك الجنوب الأمريكي كارسن ماكالرز. تأخذنا الروائية الأمريكية في روايتها القصيرة بصحبة شخصيات غاية في الغرابة والتعقيد والازدواجية إلى عمق الجنوب الأمريكي العنصري والمتدين وبالتحديد إلى بلدة في ولاية جورجيا خلال بداية القرن العشرين خلال مرحلة من أكثر مراحل التاريخ الأمريكي والعالمي حركة وتغيرا. إنها ببساطة قصة مجتمع يعيش ويواجه تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية كبرى.
تدور أحداث الرواية حول امرأة عصامية تدعى اميليا تعيش مستقلة اقتصاديا واجتماعيا في مجتمع ذكوري ومتدين، في إحدى القرى النائية في الجنوب الأمريكي، الأمر الذي يجعلها معزولة اجتماعيا عن باقي أهالي القرية التي لا تجمعها بهم سوى الأعمال التجارية أو القضايا التي اشتهرت برفعها على الجميع ولأتفه الأسباب. تنقلب حياة الآنسة اميليا رأسا على عقب بعد أن ينضم للعيش معها قريب بعيد أحدب بشع المظهر يدعى لايمن. تقع اميليا في غرام الزائر الغريب الأمر الذي يدفعها إلى الانضمام أكثر إلى الحياة الاجتماعية حيث تأسس مع الكزين لايمن مقهى، يصبح بعدها أهم مزارات القرية النائية والمأوى المحبب لأهل القرية للاجتماع والسهر.
يتضح بعدها أن الآنسة اميليا كانت متزوجة زواجا عابرا لم يستمر أكثر من عشرة أيام من شخص غاية في الوسامة والقوة، يدعى مارفن ميسي، لكنه معروف بماضيه وحاضره الإجرامي، وأنه محتجز في أحد سجون أتلانتا، عاصمة الولاية. بعد ست سنوات من لقاء الكزن لايمن والسيدة اميليا تأتي الأنباء أن مارفن ميسي قد خرج من السجن وعاد للقرية ومعها تنقلب حياة الأنسة اميليا مرة أخرى، إذ ينبهر الأحدب بالشاب القادم ويصبح أحد تابعيه الأمر الذي يجعل اميليا أمام خيار غاية في الصعوبة بين العودة لحياة الوحدة والعزلة وبين التحمل والانحناء أمام عدو الماضي الذي استحوذ على حاضرها الجميل ومستقبلها.
تقدم كارسن الرواية من خلال المنظور الخارجي فقط؛ فالقارئ يستمع لشهادة خارجية لا تسمح له بالوصول إلى شخصيات الرواية فلا مبررات ولا شرح للتصرفات، باستثناء الحديث السريع عن ماضي بعض الشخصيات يسمح لنا للوصول الى دواخل الشخصيات هذا بالإضافة إلى غياب المنولوجات الداخلية أو شرح للأمور التي تحدث وراء الغرف المغلقة فنحن مثلا لا نعرف بصورة مباشرة عن طبيعية العلاقة التي تجمع اميليا مع الكزن لايمن، أو السبب الذي دمر علاقتها الزوجية منذ اليوم الأول، وهي من الأمور الأساسية التي شكلت المحرك الرئيسي للأحداث في الرواية. كل هذه الأمور جعلت من فهم الكثير من الأحداث والشخصيات أمرا غاية في الصعوبة وخاصة مع الكثير من الخيارات والتصرفات الغريبة التي تتخذها الشخصيات الرئيسية اميليا، الأحدب ومارفن ميسي، إلا أنه أيضا وفي الوقت ذاته يعطي مساحة كبيرة للقارئ في المشاركة في فهم وصنع الأحداث بل وخلق روايته الخاصة.
لكارسن قدرة عجيبة على جر قارئها في وسط الأحداث التي تكتبها فالقارئ يجد نفسه فجاءتا كواحد من أهالي القرية الذي نبذوا اميليا في الماضي، ثم استمتعوا بعدها بما قدمته من مشروبات وطعام في مقهاها، إنه أيضا ـ أي القارئ- واحد من أولئك الأشخاص الذين تجمعوا من القرية أو القرى المجاورة لمشاهدة النزال الأخير بينها وبين مارفن، بدلا من محاولة حله والوقف مع أميليا في لحظة احتياجها. اضف الى ذلك ان لكارسن قدره على عرض الكثير من أفعالنا الشخصية اتجاه الآخرين امام المجهر والمحاكمة فكم هم الأشخاص الذين تعاملنا معهم بقساوة ونبذناهم فقط لأننا أسأنا فهمم، ولم نعطهم الفرصة للمساهمة بنجاح في مجتمعاتنا، كما أن لها قدرة على طرح قسوة الحب عندما تكون من اتجاه واحد وطرف واحد وما قد يجره استهتار المحبوب بمن يحبه وما قد يجره هذا على الأخير من الحزن والآلام.
الترجمة جميلة.
الرواية نشرت لأول مرة بلغتها الأصيلة في ١٩٥١، بين يدي هي الطبعة العربية الثالثة ٢٠٢٠ لترجمة الاستاذ علي المجنوني ومنشورة عن مسكيلياني للنشر والتوزيع، تقع الرواية في ١١٢ صفحة.
تقيمي الشخصي : ٨/١٠
تعليقات
إرسال تعليق