قراءة في رواية "نداء البراري" لجاك لندن
منذ مشاهدتي للمسلسل الوثائقي الرائع
"الغرب" للمخرج الأمريكي الشهير كين بيرنز، الذي تناول
الاستعمار الأمريكي للغرب المجهول، وقصص حمى الذهب والجلود، وحكايات الطمع والسطوة
والاستعلاء وصراع الإنسان مع الطبيعة، ظلّ موضوع "روّاد الحدود" من أكثر
الموضوعات التي أثارت اهتمامي وفضولي حول الطبيعة الإنسانية. لذلك، كان من الطبيعي
أن تزداد جاذبية رواية نداء البراري في نظري، بوصفها إحدى كلاسيكيات الأدب
الأمريكي التي تناولت هذه الروح المبكرة للإنسان في مواجهة البرية.
تحكي الرواية قصة الكلب المنزلي "باك"
، الذي يُختطف من حياة الدعة والراحة في مزرعة أحد القضاة في كاليفورنيا ، ليُقاد
إلى الشمال الكندي القارس خلال نهاية القرن التاسع عشر، في زمن حمى الذهب التي
اجتاحت المنطقة وضاعفت الحاجة إلى الكلاب القوية لجرّ العربات وسط الجليد. ينتقل
باك من سيدٍ إلى آخر، ومن عملٍ إلى آخر: من موظفي البريد المحترفين إلى مجموعة من
الهواة الطامعين في الثراء السريع. وفي هذه الرحلة القاسية، يتحول باك من كلب
مدلّل إلى قائدٍ متوحّش لا يتورّع عن القتل في سبيل البقاء والسيطرة.
من خلال هذه الحكاية، يطرح جاك لندن ثيمات
متعددة حول علاقة الإنسان بالحيوان، ومعنى الحرية، والالتحام بالطبيعة. غير أن الفكرة
الأعمق، من وجهة نظري، هي تلك المتعلقة بزيف الحضارة، وسهولة انحدار الإنسان إلى
التوحش والبدائية حين تنهار القيود والضوابط. فالصراع بين "الإنسان
المتمدّن" و"الإنسان البدائي" ليس مجرد حكاية أدبية، بل هو مرآة
لما نراه في واقعنا المعاصر: من الحروب الأهلية في العالم العربي، إلى الصراع في
أوكرانيا، وصولاً إلى الإبادة في غزة، حيث يسقط القناع عن الشعارات الكبرى حول
حقوق الإنسان والعدالة والديمقراطية. ورغم مرور أكثر من مئةٍ وعشرين عامًا على
كتابتها، ما تزال نداء البراري رواية نابضة بالتأثير، تطرح الأسئلة نفسها حول
الطبيعة الحقيقية للإنسان، وحول الحدود الرقيقة التي تفصل بين الحضارة والوحشية.
لابد من الإشارة – ولو سريعًا – إلى
الترجمة التي أنجزتها مها محمود صالح، وهي بحق ترجمة رائعة لا تُشعرك إطلاقًا بأنك
أمام نصٍّ مترجم. تجربة كهذه تجعلني أتطلّع بشغف لقراءة المزيد من ترجمات الأستاذة
مها محمود في المستقبل.
تقيمي
الشخصي: 9/10
تقع الرواية
في 143 صفحة ، نشرت الرواية لأول مره عام 1903 ، بين يدي طبعة دار التنوير الأولى 2019.
تعليقات
إرسال تعليق