قراءة في الحروب الصليبية كما رآها العرب لأمين معلوف
يقول أحد الفلاسفة إن التاريخ إذا
أعاد نفسه كان في المرّة الأولى مأساة، وفي الثانية مهزلة. ومن يقرأ الحروب الصليبية من منظور عربي يدرك
أننا نعيش اليوم إعادة المؤامرة نفسها، لكن في نسخة أكثر سخرية؛ فكما استطاعت جيوش
قليلة العدد السيطرة على المشرق لقرنين كاملين، تسيطر اليوم قوى صغيرة على حاضر
ومستقبل أمّة يفوق تعدادها الخمسمائة مليون، في مشهد يُجسّد عجزًا تاريخيًا لم
نتجاوز ظلاله بعد.
يهدف معلوف إلى
تفكيك الخطاب الغربي الرومانسي الذي صوّر الحملات الصليبية على أنها حرب مقدسة
قادها فرسان نبلاء لتحقيق “المعجزة الإلهية”. وما على المرء إلا أن يزور متحفًا
أوروبيًا ليرى الكم الهائل من اللوحات والمنحوتات التي تمجّد هذه المرحلة بشاعرية
تقترب من القداسة. على النقيض، يستعيد معلوف المشهد كما رآه العرب: سلسلة من
المجازر الوحشية التي بدأت في نيقية وأنطاكية مرورًا بالمعرّة، التي بلغ فيها
القتل حدًّا دفع المؤرخين الغربيين أنفسهم للاعتراف بأكل الناس لحم بعضهم من شدة
الجوع، وصولًا إلى القدس حيث ذُبح أكثر من سبعين ألفًا.
وفي الجهة المقابلة، يسجّل التاريخ
صورة مغايرة تمامًا لطريقة العرب في استعادة القدس في عهد الناصر صلاح الدين، الذي
دخل المدينة بروح التسامح والعفو وحماية المدنيين. هذا التباين بين الوحشية الأولى
والرحمة اللاحقة ليس تفصيلاً، بل جزء من رسالة الكتاب في مساءلة ازدواجية المعايير
في الوعي الغربي.
لكن القيمة الأهم لكتاب معلوف
بالنسبة للقارئ العربي فتكمن في قراءة الأسباب الداخلية للهزيمة العربية. فالشرذمة
التي جاءت من أقاصي أوروبا لم تكن لتنجح لولا أن العالم العربي كان غارقًا في
صراعات تافهة بين أمراء المدن، وخيانات متبادلة بين السلاجقة والفاطميين، وانقسام
مذهبي حاد جعل القاهرة وبغداد تتصارعان على النفوذ بينما كان العدو يطرق الأبواب.
وما يوجع القارئ اليوم هو أن هذه الانقسامات نفسها ظلّت تتكرر في القرن العشرين
والواحد والعشرين بين القوى العربية، وكأن الزمن دار دورة كاملة ليعيد إخراج
المشهد نفسه.
ويُحسب لمعلوف أسلوبه الشائق في
السرد، إذ يروي الأحداث بلغة تجمع بين الدقة التاريخية والنبض الروائي، فتتشكل
أمام القارئ لوحة غنية بالشخصيات والوقائع: من قلج أرسلان ، أول من واجه الغزاة ،
وياغي سيان ، الذي صمد على أبواب أنطاكية ، وابن الخشاب الذي أطلق شرارة المقاومة
في الشام ، إلى قادة النصر عماد الدين زنكي ونور الدين وصلاح الدين وشيركوه. كما
يسلّط الضوء على شخصيات مميزة ساهمت في تغير التاريخ وصناعة مشاهد غاية في التركيب
من أسامة بن المنقذ وعلاقته بالبرابرة ووزير مصري يدعى شاور جمع بين الدهاء والخيانة
الى دوق اعمى في بندقية حمت اطاعة الشرق العربي من هجمة صليبة كبرى.
في النهاية، يبقى كتاب الحروب
الصليبية كما رآها العرب عملاً مهمًا لفهم جذور أزمات الحاضر من خلال مرآة الماضي.
تقيمي الشخصي:
9/10
يقع الكتاب
في 371 صفحة، بين
يديّ الطبعة التاسعة الصادرة عن دار الفارابي عام 2019. ترجمت عفيف دمشقية.
.jpg)
تعليقات
إرسال تعليق