قراءة لرواية قنديل ام هاشم ليحيى حقي

 



هناك كتبٌ أدبيةٌ تشعر معها أنك تعيش الصراعات النفسية ذاتها التي تعيشها شخصياتها، فتجد نفسك تتحرك مع أبطالها، وتتماهى مع أحداثها، وكأنها ترسم ملامح حياتك أنت. وهذه الرواية القصيرة كانت كذلك؛ إذ وجدتني أتوحّد مع بطَلِها الذي خاض الصراع نفسه الذي عشته بعد العودة من رحلة الدراسة: ذلك الصراع بين الحداثة والأصالة، بين الماضي الذي يسكنك والمستقبل الذي يناديك.

 والعجيب أن هذه الرواية منحتني الشعور وكأنني أجلس على كرسي الطبيب النفسي، لا على مقعد القارئ؛ أسترجع ماضيّ بكل ثِقله وأسئلته، وأعيد تفكيك هويتي ودوافعي، كأن الراوي يطلب مني أن أواجه نفسي، لا أن أتابع حكاية شخص آخر. كانت الرواية، في لحظات كثيرة، أقرب إلى جلسة اعتراف داخلي، أبحث فيها عن إجاباتٍ لأسئلةٍ كنت أظنها مطموسة تحت طبقاتٍ من التجربة والزمن.

أما على المستوى العام، فليس من المبالغة القول إن هذه الرواية تُعدّ من أقدم – وربما أروع – ما تناول الصراع بين الأصالة والحداثة في المشرق. إنها، بلا شك، تقف جنبًا إلى جنب مع أعظم الأعمال التي عالجت الفكرة ذاتها، مثل أولاد حارتنا وموسم الهجرة إلى الشمال. تحكي الرواية قصة شاب مصري نشأ في حي السيدة زين(ام هاشم) وسط عائلة متوسطة في القاهرة، قبل أن تأخذه الدراسة إلى بريطانيا، حيث يواجه صدمة الحداثة بكل عنفها وبريقها. وعند عودته، يكتشف أن عالمه القديم ما زال غارقًا في جهله وطفولته وبساطته، فيعيش تمزقًا داخليًا بين تراث قرر أن يتبرأ منه هناك، وواقع يفرض نفسه عليه هنا في وطنه.

يقدم يحيى حقي عبر هذه الرواية شخصيات مرسومة بإتقان، ولغة تصويرية أخاذة تُعيد لك ميدان ومقام السيدة زينب من زاوية مختلفة تمامًا؛ زاوية لا تُغيّر المشهد بقدر ما تكشف طبقاته العميقة وتناقضاته الخفية. إنها من تلك اللحظات التي يتوقف فيها القارئ مدهوشًا أمام جمال اللغة، أمام المفارقات المدهشة، وأمام هذه القدرة الإبداعية العالية والحسّ الفني الرفيع. حقًا، تعجز لغتي المتواضعة وقراءاتي المحدودة عن الإحاطة بهذا البذخ الفني ليحيى حقي، الذي استطاع أن يقدم الحي نفسه والشخصيات ذاتها من منظورين متضادين.  

بالإضافة إلى الرواية الرئيسة، يحفل الكتاب بخمس قصص قصيرة أخرى، كل واحدةٍ منها تستوجب كاتبًا للحديث عنها وطرح مضمونها. غير أن الأقرب بينهنّ إلى قلبي هي قصة " كن ... كان" والتي تحكي قصة شاب يقرّر مقايضة الموت بعشر سنواتٍ من عمره، مقابل أن يعود عشر سنواتٍ إلى الوراء، لعلّه يغيّر مسار حياته.   

 

تقيمي الشخصي: 10/10

الرواية نشرت لأول مره عام 1943 ضمن سلسلة اقرأ عن دار المعارف المصرية بين يدي طبعة خاصة عن دار المعارف 2016م  تقع الرواية في 131 صفحة.

تعليقات


  1. ‏ملخصاتك الرائعة تشوق دائما لقراءة هذه الكتب

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة لرواية خان الخليلي لنجيب محفوظ

قراءة للمجموعة القصصية أكابر لميخائيل نعيمة

قراءة لمسرحية "السلطان الحائر" لتوفيق الحكيم