قراءة لرواية طعم اسود … رائحة سوداء للكاتب اليمني علي المقري
“ بالنسبة اليه بدا الدفاع عن النفس مختلفا:
- كلنا خونة ، يا حضرة القاضي. الانسان كائن خائن. لكنه يفقد ذاته ، و صفته في اللحظة التي يتم فيها إثبات خيانته. عندما يبدأ بممارسة خيانة جديدة يسترجع وجودة و صفته في الحال “
عندما تواجهك عبارة على مستوى العبارة السابقة في الصفحة الاولى من كتاب تهم في قراءته تدرك انك من البداية امام عملي ادبي جبار يتستحق انت تسثتمر فيه وقتك و تمعن فيه كل مدارك. هذا بالضبط ما ادركته بعد ان قرات المشهد الاول من رواية الكاتب اليمني على المقري “ طعم اسود … رائحة سوداء “ و لم تخيب الفصول القادمة من احساسي الاولي بل اكدتها فقد كنت بصراحة امام عمل متميز من كل النواحي سواء كان على المستوى الفني او اللغوي او من ناحية الرسائل الاجتماعية و السياسية النقدية التي ارادت توصيلها. تجدر الاشارة هنا الى ان الرواية وصلت الى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام ٢٠٠٩م.
تناقش الرواية قضية من اكثر القضايا الشائكة في اليمن و هي قضية ما يعرف بالاخدام و هي قضية مسكوت عنها اعلاميا و لم اكن اعرف عنها قبل هذه الرواية اي شىء بل اني لم اسمع بها على الاطلاق رغم متباعتي للاخبار اليمنية من زمن ، الامر الذي جعلني ادرك مرة اخرى حجم الجهل المعرفي لدي عن اليمن سواء على المستوى التاريخ او مستوى الحياة السياسية و التركيبة الاجتماعية لذ هذا البلد القريب منا و المأثر علينا كثيرا و هو الامر نفسه الذي ادركته بعد انتهائي من رواية صنعاء مدينة مفتوحة و هي العمل الادبي الاول الذي اقرءة للكاتب يمني.
على كل حال نعود الرواية و نبدا بموضوعها و هي قضية الاخدام. فمن هم الاخدام ؟ الاخدام هي مجموعة عرقية من السود في الاغلب و هي فئة مهمشة ومحرومة جدا تعيش بصورة فضيعة تعيسه و مثيرة للاشمزاز في اليمن اختلف في اصل عرقيتها على انهم على الاغلب حسب قرائتي الاولية خليط منالاحباش و الهنود و فقراء العرب و العبيد، تصنف على أنها ادنى مستويات المجتمع اليمني و هو المجتمع المعروف بطبقيته الشديدة حيث يقول الكاتب على لسان احدى ابطال الرواية عن طبقة الاخدام “ نحن لسنا عبيدا، العبيد افضل منا بكثير ، فهم اعلى منا بدرجة. فوق العبيد هناك اليهود و فوق اليهود ابناء الخمس، الدواشنة من المداحين و المزينين الحلاقين و الحجامين و الحمامين و الخادمين في الحمامات و الدباغين و المقهويين و المقوتين ، فوقهم القبائل ، فوق القبائل المشائخ والقضاة ثم السادة … “. عاشت هذه الطبقة و ما زالت تعيش في عشوائيات و عشش من الكرتون و الصفيح على هامش المدن و هي محرومة من ادنى مستوايات العيش الانساني فلا تعليم و لا صحة و لا ماء نظيف و لا كهرباء ، حياة مريرة بكل المقايس. يعمل معظم هؤلاء في الاعمال التي تعتبر دونية في المجتمع اليمني كتنظيف الشوارع و الخدمة في البيوت حيث انهم محرومون من الوظائف الحكومية او الالتحاق بالجيش. بصراحة تفاجأت شخصيا و انا اقرا الرواية فلم اصدق ما قراءت و نسبتها الى مبالغة الكاتب الا اني بعد البحث تفاجأت بهذه الحقائق المريرة التي يعيشها هؤلاء الناس.
اعود الى قصة الرواية التي تدور حول عبدالرحمن وهو ابن عائلة مرموقة في احدى القرى. يقيم عبدالرحمن علاقة مع احدى بنات المزينين الذي يعتبرون في مجتمع القرية ادنى الهرم الطبقي فتحمل و لكونه في الثالثة عشر من العمر و كونها تكبره بعدة سنوات و لكونها ابنة المزين الذي لا ظهر له في القرية تحمل كل التهم و تسعى عائلته للتخلص منها قبل ان تلد فتثبت التهمة على ابنهم فيتسببون في الافتاء برجمها حية مع و ليدها و هو ما يحدث ، غير ان الاحداث تتقدم فيقيم الفتى علاقة مع اخت القتيلة الدغلو التي تكبره بعام و ليتجنبا المصير الذي اصاب الاخت الاكبر يقرر الفتى الهروب مع الدغلو من القرية و التوجه الى تعز. لا يستقبلهم في تعز سواء بيت و الصفيح و الكرتون في محوى الزين و هو الحي الذي يعيش فيه الاخدام. لتبدا معه قصتهم في هذا المجتمع الشقي و الغريب الذي لا يدرك كثيرون فيه الشقاء اليومي الذي يعيشونه. لكنه ايضا المجتمع حر لا يعرف الطبيقة و التميز و لا يلتزم بالقوانيين و المعاير الاخلاقية التي يدعي غيرهم التزامها.
ينجح علي القري في روايته بلغتها الفجة و الصريحة و المره و التي تبتعد عن المواربة في نقل الصورة الكاملة للمجتمع و حياة الاخدام . كما ينجح في فضح المجتمع الاخر الذي يدعي التدين المجتمع النظيف الابيض و الاخلاقي في مقابل مجتمع العبيد الاخدام الذي لا يعرف الحدود الاخلاقية و الدينية فنجد قيم الخير تتقدم علي الاول . هناك الكثير في الرواية الذي لا يمكن حصره في مقال واحد ليس على مستوى اللغة الرائعة و البديعة فقط بل كذلك على مستوى الدرما و الشخصيات المركبة و الحقيقية و التي تشعرك و انت تقرائها انك تشاهد شخصيات حقيقة تتحرك امامك فتعاطف معها و مع حياتها المريرة. تدور الرواية بين عامي ١٩٧٦م و عام ١٩٨٢م و تقسم الرواية الى ست فصول كل فصل بعام الي انها لا تبدا من ١٩٧٦ و بالترتيب الزمني الى ١٩٨٢م بل تضعك في البداية في مواجة مشهد الذروه في الرواية و هو مشهد المحكمة عام ١٩٨١ ليتركك الفصل الاول امام الكثير من الاسئلة حول الشخصيات و مالذي حدث لها ؟ الامر الذي يثير فضولك و يشد انتباهك منذ اللحظة الاولى للرواية، ثم ينقلك بعدها الي الاحداث التي اوصلت الشخصيات الى مشهد الذروة ذاك .
الرواية رغم صغر حجمها غنية بالكثير من المعاني الفلسفية بالاضافة الى النقد السياسي و الاجتماعي و لا يمكن حصر افكارها في مقال واحد فقط كما اسلفت فهي حقا حقيقة بالاهتمام و الدراسة و القضية التي تسلطها قضية مهمة جدا وهي ايضا حقيقة بالنشر و البحث عنها و المساهمة في ايجاد و طرح الحلول لها سواء علينا كافراد او على الباحثين او السياسين او الاعلامين الذي لا اجدهم اوفوا هذه القضية حقها من الاهتمام.
الرواية بين يدي هي الطبعة الثانية ٢٠١١ و منشوره عن دار الساقي و تقع ١٢٠ صفحة …
تقيمي الشخصي : ٨/١٠
مر ٧٥ يوما و ١٧ كتبا ، القادم هو رواية رشحت ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية بعنوان يوم رائع للموت للكاتب الجزائري سمير قسيمي.
ملاحظة : الاخطاء الاملائية الواردة سببها عدم وجود مصصح في البرنامج الذي استخدمه للكتابه و لذلك اطلب العذر مسبقا
تعليقات
إرسال تعليق