قراءة لرواية الحب في زمن الكوليرا لغابرييل غارسيا ماركيز



"لقد عاشا معا ما يكفي ليعرفا أن الحب هو أن نحب في أي وقت وفي أي مكان، وأن الحب يكون أكثر زحماً كلما كان أقرب إلى الموت" 


سأبدأ حديثي عن رواية "الحب في زمن الكوليرا" للروائي الكولومبي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل للآداب بإشارة سريعة قد يجدها الكثيرين غريبة ومثيرة للجدل ربما وهو لأنني أعتقد أولا أن هذه الرواية أفضل بكثير عن رواية مائة عام من العزلة التي قرأتها قبل أربع سنوات تقريبا والتي يعدها معظم النقاد أعظم أعمال الكاتب الراحل، كما أنني بصراحة لم أقع - head over heel وعلى خلاف الكثير من الأصدقاء - في غرام أدب غابرييل غارسيا ماركيز بعد قراءة أهم عملين قدمهما خلال مسيرته الأدبية الكبيرة. 


فعلى الرغم من الإبداع والخيال اللامحدود والحرفية والعمق الكبير التي يكتب بها ماركيز إلا أنني وجدت كلا الروايتين  بصراحة في معظم الأحيان alienating & extremely boring ـ لقد كنت طوال صفحات الرواية أتساءل مع نفسي : لماذا لا يعجبني هذا العمل على الرغم من الكتابة الرائعة والشخصيات المركبة؟ لماذا لا أشعر بأي عاطفة تجاه النص وشخصياته وموضوعه؟  ولم أجد حقا جوابا شافيا لهذه التساؤلات إلا أنها ربما من المرات القليلة التي لا أستطيع فيها تكوين أي صلة أو عاطفة مع نص رغم إعجابي به كصنعة أدبية.  ولعل أقرب مثال يحضرني لتقريب الفكرة هو الانبهار والإعجاب الذي أحمله للجهد الإنساني الذي صنع مدينة رائعة كدبي في مقابل المتعة التي أشعر بها وأنا أتمشى في شوارع روما أو باريس.  


عودا إلى الرواية، تدور أحداث الرواية باختصار حول علاقة حب عاصف تنشأ بين فلورنتينو أرثيا وهو ولد غير شرعي يعيش مع أمه في قاع الطبقة الاجتماعية، وبين فيريمنا داثا وهي وإن كانت لا تنتمي لأسرة نبيلة معروفة إلا أن تجارة أبيها الغامضة جعلت عائلتها من علية القوم في تلك المدينة اللاتينية. تدور أحداث الرواية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر في كولومبيا المستقلة حديثا من الاستعمار الإسباني، والتي تعيش حربا أهلية متكررة بين المحافظين والليبراليين. إلا أن قصة الحب لا يكتب لها النهاية السعيدة فبعد أن تكتشف فرمينا داثا وهي في سنة الثامنة عشر وفي لحظة مفصلية من حياتها أن حبها لم يكن إلا مغامرة من مغامرات المراهقة الثورية على أبيها تقطع علاقتها بفلورنتينو مباشرة وبقسوة وبرود غريب وتتزوج من طبيب ثري مثقف وسليل لإحدى أهم العائلات النبيلة في البلد. 


"كانت تبدو له جميلة جدا ، فاتنة جدا، ومختلفة جدا عن الناس العاديين، بحيث لم يدرك كيف لم يختل الآخرون مثله بصناجات كعبها على بلاط الشارع ، ولا تضطرب قلوبهم بهواء تنهدات كشكشها، ولا يصاب العالم كله بالجنون حبا بحركة ضفيرتها ، وطيران يديها، ولجبين ضحكتها " 


يتحطم قلب فلورنتينو ويندفع بجنون في علاقات عابرة وسريعة مع مئات الفتيات في رغبة منه للانتقام الشديد من النفس وطمس الجانب الرومانسي فيها الذي سببت له كل تلك الالآم والخيبات إلا أنه ومع ذلك لا يرتبط بأي علاقة حقيقة مع أي منهن لأنه ينذر نفسه في النهاية فقط لفيرمينا داثا منتظرا وفاة زوجها الدكتور. خلال الواحد وخمسين سنة القادمة نعيش مع بطل الرواية رحلة الانتظار الطويلة على أمل الوصول أخيرا إلى حبه المنشود ونعيش مع فيرمينا داثا حياتها الزوجية بكل عواصفها وتعقيداتها وكل لحظاتها السعيدة والحزينة والمرة. 


يروج الناشرون والكثير من النقاد للرواية على أنها " قصة خلود الحب لدى الجنس البشري" أو " قصة حب ذات قوة مدهشة " وهو ما أراه شخصيا أبعد ما يكون عن الحقيقة بل لعل هذه الرؤية تضع الرواية وقارئها أمام مشكلة جوهرية، فإذا تمت قراءتها على أنها قصة حب خالدة ومدهشة لرجل في غاية الرومانسية والوفاء رهن حياته لمدة خمسين سنة من أجل الفتاة التي تعرف عليها في المراهقة ، فإن على القارئ في هذه الحالة أن يقف في صف بل ويحمل مشاعر التعاطف مع الشخصية الرئيسية - فلورنتينو ارثيا متمنيا في هذه الحالة وصوله في الختام إلى تحقيق حبه . 


وعليه إذا في هذه الحالة ـ أي القارئ ـ أن يتغاضى عن كل القبائح والجرائم الفضيعة التي ارتكبها بطل الرواية خلال الخمسين سنة التي قضاها في الانتظار ابتداء من العلاقات العابرة التي تركت مئات القلوب المحطمة إلى اغتصابه المروع لخادمته وتسببه في مقتل إحدى النساء بعد علاقة عابرة اكتشفها زوجها، وأخيرا وهذا أمر لم أستطع أن أتجاوزه أبدا ولن تستطيع ملايين قصص الحب والرومانسية أن ترقعه أو تخفيه وهو اغتصابه واستغلاله الجنسي لطفلة من أقربائه أرسلت إليه ليكون المسؤول عنها أثناء دراستها في إحدى المدارس الداخلية داخل المدينة. ولعل كل هذا تركني أمام مجموعة من التساؤلات المفتوحة وهي هل أراد ماركيز إذا أن يتحدى قارئه ويختبره إلى أي درجة يمكن لقارئه أن يتعاطف مع شخصية بمثل هذه القبح والبشاعة؟ بل وما هي النقطة الفاصلة التي يمكن للقارئ معها أن يقطع علاقته بالشخصية الرئيسية ويتجاوز كل الأوهام عن الحب الخالد ويفكر أن هذا الشخص مجرد مريض نفسي مكانه الطبيعي هو السجن أو مصحة نفسية في أحسن الأحوال؟


شخصيا وجدت نفسيا أتجاوز بسرعة كل تلك الإعلانات والمنشيتات العريضة عن الحب الخالد وقرأت الرواية بصورة مختلفة فأنا شخصيا لا أعتقد أن ماركيز قصد في ما كتبه حقا أن يقدم قصة حب ذو قوة مدهشة ولا قصة خلود الحب بقدر ما هي قصة مريض نفسي حولته تجربة حب في المراهقة إلى وحش ومختل عقلي دمر في غضم مطاردته المرعبة للأوهام المراهقة حياة العشرات من النساء والفتيات في بلد تقطعت بنيران الحروب الأهلية. وإذا كان هناك من قصة حب خالدة في الرواية فهي القراءة الإنسانية لتجربة الزواج المعقدة والمركبة المملؤة بالكثير من التقلبات الإيجابية والسلبية بين فيرمينا داثا وزوجها وقدم من خلالها ماركيز - وربما كان هذا هو أفضل ما فيها الرواية - تقلبات الحياة الزوجية كتجربة عالمية يستطيع أي حبيبين أو زوجين أن يتماهى معها ويعكساها على تجاربهم الشخصية.   


هناك بالطبع من سيقرأ الرواية  على أنها مقارنة بين تجربتين من الحب كليهما له من الإيجابيات بقدر ماله من السلبيات الحب الجارف والرومنسي فلورنتينو ارثيا والحب المتحفظ والعميق التي يمثلها الدكتور خوفنيال أوربينو وهي قراءة أعتقد أن فيها شيء من التسطيح. في الختام، خرجت من التجربتين مع غابرييل غارسيا مارجير بنفس المحصلة التي خرجت بها من أدب الأديب الليبي إبراهيم الكوني وهي " وهي أني ليست من المغرميين بأسلوب مارغيز وطريقة سرده ولكني مع ذلك أقدر فنه وإبداعه الذي له جمهوره الواسع".


تقييمي الشخصي: ٨ /١٠

تقع الرواية في ٤٤٥ صفحة. بين يدي طبعة دار التنوير الأولى ٢٠١٧م ترجمة صالح علماني. 

القادم عبث الأقدار لنجيب محفوظ 


تعليقات