قراءة لكتاب المثقفون في الحضارة العربية – محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد لمحمد عابد الجابري
يقدّم المفكر المغربي الكبير في بحثه الرائع دراسة عن العلاقة بين المثقف في الحضارة العربية والسياسة والسلطة – ممثّلة في الحاكم – وهي العلاقة الشائكة التي ما تزال تشكّل المشهد الثقافي العربي المعاصر، متخذًا من محنة ابن حنبل في قضية خلق القرآن ونكبة ابن رشد في قضية شرح كتاب الحيوان لأرسطو مجالًا لاستعراض هذه العلاقة وتحليلها.
يبدأ الجابري في كتابه رحلة البحث عن المثقفين في الحضارة الإسلامية، ويبدأ بالبحث في مفهوم المثقف الذي يعتبر تصنيفًا دخيلاً على الثقافة العربية وقادمًا من أوروبا، ثم يتتبّع مفهوم المثقف من خلال دراسة النهضة الأوروبية، وينتهي به البحث إلى أن بداية تشكّل المثقف – أو المفكر الأوروبي – كانت في القرن الثاني عشر الميلادي عند بدء الاتصال بين الثقافة العربية (الإسلامية)-اليونانية التي تشكّلت في المدن العربية الكبرى مع المدن اللاتينية والغرب في أوروبا، إما بسبب التجارة أو الحروب والغزوات. وقد تشكّل الفكر الأوروبي في بعض تلك المدن كردة فعل على هذه الحضارة التي حكمت نصف المعمورة – وهو الأمر ذاته الذي وقع في بداية ما يُعرف بـعصر النهضة العربية الذي جاء نتيجة لغزو نابليون لمصر. وينتهي الجابري إلى أن ظهور المثقف في المفهوم الأوروبي المعاصر الذي نستخدمه اليوم ما هو إلا امتداد للحضارة الإسلامية.
يتجه بعدها الجابري إلى عرض صنوف المثقفين المسلمين على اختلاف مشاربهم، كما يعرض بداية المثقف في الحضارة الإسلامية، التي ينسبها إلى بداية الاختلاف الذي أعقب مقتل عثمان وانقسام المسلمين، حيث بدأ توظيف مفاهيم العقيدة والدين في الصراعات السياسية والجدلية.
في الفصل الثاني من الكتاب يبدأ الجابري باستعراض مفهوم المحنة في التاريخ الإسلامي، ثم يقدّم أمثلة على محن العلماء في العصر الإسلامي من حجر الكندي إلى سعيد بن جبير وسعيد بن المسيّب. ثم ينتقل الكتاب إلى موضوعه الأساسي، وهو البحث وراء السبب الحقيقي لقضية ابن حنبل وجمهور أهل الحديث في صراعهم مع الخلفاء العباسيين ومن كان في بلاطهم من المعتزلة في قضية خلق القرآن والتشبيه، ويطرح التساؤل: هل كان السبب وراء هذا الصراع الدموي حقًا هو قضية خلق القرآن التي تُعدّ من الفروع في الفكر المعتزلي، أم أن هناك أسبابًا سياسية دفعت المأمون والمعتصم والمتوكل من بعدهم إلى توظيف قضية خلق القرآن كشماعة في صراع في الأصل سياسي بحت؟
يتّبع الجابري تحليلًا نقديًا غاية في الدقة في تتبّع الأحوال السياسية التي أعقبت مقتل الأمين، من خلال النصوص التاريخية التي أرّخت لتلك الفترة، وفي قراءة منشورات المحاكمات التي قدّمها العباسيون في صراعهم مع أهل الحديث. وينتهي إلى أن الأوضاع المضطربة التي عاشتها العراق بعد مقتل الأمين أدّت إلى ظهور المطوّعة كبديل لغياب السلطة وعلاقتهم بأهل الحديث ونفوذهم بين العامة ثم دفاعهم عن الامويين هي التي أدت الى محنتهم أي انه الأسباب سياسية بحته. ويعرض أمثلة على أن المحاكمات حول خلق القرآن كانت في عمقها سياسية بحتة، ومنها أنه عند القبض على أحمد الخزاعي في مؤامرة للثورة، لم تتم محاكمته وقتله بسبب محاولة الثورة، بل بحجة كفره لإنكاره خلق القرآن. ثم أن المصير ذاته واجهه المعتزلة بعد انقلاب المتوكل، وذلك في خضم صراعه مع النفوذ التركي، فاستعان بنفوذ العامة وتمت نكبة المعتزلة بنفس القسوة التي واجهها أهل الحديث من قبل، حتى أُقصوا بالكامل من الحضارة الإسلامية، وبمشاركة من أهل الحديث أنفسهم. لينتهي في النهاية إلى أن علاقة المثقفين بالسلطة بالأمس (معتزلة وأهل الحديث) أشبه ما تكون بعلاقة المثقفين بالسلطة اليوم (ليبراليين وسلفيين وأصوليين)، وأن جوهر العلاقة هو التناوب في خدمة سيطرة الدولة وهيمنتها.
وفي قضية نكبة ابن رشد يقدّم الجابري رؤية جديدة تختلف عمّا ورد في الكتابات التاريخية التي تدّعي أن سببها كتابات لابن رشد في ترجمة لأرسطو قال فيها إن الزهرة أحد الآلهة. ويستند في نفي هذه الرواية إلى أن ترجمة هذا الكتاب كانت قبل النكبة بخمسة عشر عامًا، وأنه كان حينها من أهم علماء الخلفاء الموحّدين، وكانوا هم من دعوه لترجمة أرسطو لتسهيله على القارئ العام. ثم يقرّر أن السبب الحقيقي هو النقد الشديد الذي قدّمه ابن رشد لحكام الموحّدين في ترجمته وشرحه لجمهورية أفلاطون، إضافة إلى علاقته الملتبسة بأخ الخليفة الموحّدي الذي حاول الانقلاب عليه، منتهيًا مرة أخرى إلى أن الصراع كان سياسيًا تم توظيفه دينيًا، حيث إن معارضة الحاكم هي في نظر السلطة شرك في السياسة يُحاكم عليه باسم الشرك في الألوهية.
تعليقات
إرسال تعليق