قراءة لرواية شمس بيضاء باردة للكاتبة الأردنية كفى الزعبي
انتهيت بالأمس وقبل دقائق معدودة من إعلان الفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية لهذا العام من قراءة الرواية الثالثة من الروايات الست التي وصلت للقائمة القصيرة لهذا العام ، رواية شمس بيضاء باردة للكاتبة الأردنية كفى الزعبي ، التي لم تمهلني لأنتهي من فصلها الثاني أو يومها الأول لأقع في غرامها و تجعلني أتمنى فوزها بالجائزة حتى تصل برسائلها و أسئلتها و أفكارها إلى أكبر شريحة ممكنة من القراء العرب. لأني أعتقد أنها مختلفة تماما عن كل ما سبق و ترشح أو فاز بهذه الجائزة أو أي من الجوائز العربية المعاصرة و هي و إن لم تكن الأفضل دراميا و أدبيا إلا أنها بالتأكيد الأكثر جرأة في الطرح فهي لا تلجأ أبدا إلى الرمزية بل تقول ما تريد إيصاله ـ bluntly - بصراحة قل ما نجدها في كتابات الجيل الجديد ـ ما بعد الالفية الثانية ليس خوفا من مقص الرقيب فقط بل من سخط الجماهير و انتقام المتشددين.
تتمحور رواية كفى الزعبي التي تغلب عليها الاسئلة الفلسفية والوجودية والتي تبعث الروح في أسطورة الآشوري جلجامش حول سر الوجود وهدف الحياة و الصراع الأزلي بين المثقف و مجتمعه و غربة المثقفين خصوصا في مجتعاتنا المشرقية. فتدور أحداث الرواية حول الصدام بين “ راعي “ البدوي المثقف بطل الرواية ـ و أصدقائه مع مجتمع القرية الذي يعيش فيه ممثلا بوالده المتناقض الذي يعتقد أن الدين مجرد نسك تُأدى، و زملاء العمل في مجتمع المدرسة التي يعمل فيها. فينتج عن هذا صدام و عدم قدرته على فهم التناقض الصارخ للمجتمع الذي يعيشه إلى حياة عبثية تامة و إلى اليأس الكلي من الحياة.
من خلال الرحلة التي يعيشها راعي في البحث عن سر الوجود و الهدف من الحياة و المعنى من كل هذه المعاناة التي يعيشها الإنسان على الأرض تطرح كفى الزعبي على قارئها الكثير من الأسئلة الصادمة و تضعه من خلال الحوارات و التأملات التي يعيشها راعي في منطقة جديدة تخرجه من المنطقة الآمنة ـ outside the confert zone ـ التي يعيش فيها معظم الشباب العربي و تضعه في صدام مع كثير مما نعتبره من المسلمات التي يمنع حتى الحديث عنها. هذا بالإضافة إلى تعرية التناقضات الكثيرة التي يعيشها الإنسان. الأكيد أن معظم ما تناولته الروائية ليس جديد وتم طرحه و الكتابة عنه سابقا إلا أن وضعه في رواية ذات شخصيات عميقة و بأسلوب شائق في متناول معظم القراء يحسب للكاتبة.
تدور أحداث الرواية خلال أربعة عشر يوم و ليلة هي فصول الرواية و تعمد في بنائها السردي على أسلوب المانلوج الطويل و الفلاش باك الذي تتخلله في بعض الأحيان حوارات رائعة بين بطل الرواية راعي و شخصياتها الأخرى. تحفل الرواية بالكثير من المقاطع الملفتة و لا يسعني تضمين كل ما يعجبني هنا بطبيعة الحال على اني سأضع بعض المقاطع التي جذبتني علها تشجعكم لاقتناء هذه الرواية الجميلة:
- “ أعتقد أن الأدب هو أدق صنوف المعرفة في التعبير عن الإنسان و عن تاريخه ، بل أنني أعتقد أن كتب التاريخ تشوه الحقيقة و تزيفها لأنها تنظر إلى الأحداث من جانب واحد ، الجانب المرئي على السطح ، الجانب الذي يرا المشهد بعموميته و يستثني خصوصية العامل الإنساني الفردي و النفسي فيه “
- “ تتثاءب القرية من حولي بكسل في حمى الظهيرة. تحتمي بيوتها بنبات الصبار الذي يمد صفائحه من فوق الأسيجة كأنما يمد آلاف الألسنة المشوكة. هذه القرية الخاضعة للقدر، و التي تحمد ربها ليلا و نهارا على المحن التي تلم بها، و يخاف أهلها الله، و لا يكفون عن الصلاة ، و عن الدعاء ، كي ينجوا من مجهول لا يعلمه غيره ، و لن ينقذهم سواه.
هنا، حيث يتعفن الهواء من فرط سكونه، هنا حيث أعيا الجدران أن تصغي إلى الأصوات ذاتها و الهواجس ذاتها و المشاحنات ذاتها و الصلوات ذاتها ؛ هنا حيث يفيض الضيق و يخنقك و يقدمك و ليمة للغثيان؛ هنا حيث لا يزهر سوى الأوهام و المخاوف؛ هنا حيث السماء تلوح بأسواط ملتهبة منذرة بالعقاب؛ هنا حيث يعشش الجهل و يترعرع على ضفاف وديان جافة؛ هنا حيث ترتعش الأحلام و الآمال في العتمة مذعورة من الضوء؛ هنا حيث عائشة و أبي. “
- “ فجأة، يخطر في بالي أن مأساة الإنسان هي عقله ، فبفضل ذكائه اكتشف الإنسان الشر ، و فاق بوحشيته كل الكائنات الأخرى. عقل يبرر الشر بمسوغات نكذب بها على أنفسنا كي تغدو الحقيقة قابلة للاحتمال. عقل يستثمر الغباء و البله. عقل يبتدع أوهاما تنقذه من الموت و العدم. عقل يقتل الآخر في سبيل الوهم. عقل يمسح يديه من الدماء ثم يلقي على كتفه قماش قصيدة، يتغنى فيها بإنسانيته.
تتدفق في رأسي صور حروب قديمة و حروب راهنة. إنها الحرب ذاتها تتلوى كأفعى عابرة صحراء الزمن، في غبارها تلمح حطام مدن … أياد طويلة تتمتد من خارج الحدود لتسرق و تنهب و تمزق و لا تشبع ، و جياع صغار ببطون منتفخة … و مصائد معتقدات للجم الألسن ، و خرابات مقفرة تهيم بها أشباح لا زالت معذبة بوهم العدالة. أحزان و مآسي و ضغائن و آلام تنزف صراعات تدك الأرض. اجترارات متواصلة للصراع الغريزي من أجل البقاء. هو ذاته الذي كان في البدء ، لكن العقل طور آلته ، و كتب من أجله موسيقى الانتصارات، و اخترع في سبيل لغة شاسعة يحلق فيها المرء مصدقا أن بوسعها أن تعينه على استيطان الحياة “
- “ إنها الغابة يا صديقي ، تلك الذي ذهب إليها جلجامش مع صديقة انكيدو كي ينتصرا معا على حارسها. كنت أعيش على هامشها . و في يوم أغواني ذلك النداء في دخولها ، فدخلتها يحدوني حلم متهور و أمل أحمق في أنني قد أعود منها بغنيمة تفتح أبواب الحياة … لكني خدعت تبين لي أنني في الغابة ، بيد أنني أنا الشجرة التي يقطعها الآخرون و قودا لرخائهم. لست أدري من أين تأتي هذه القسوة؟ من هو الذي يعطي الحطاب فأسا و يجعل الشجرة ساكنة بلا حراك ؟ لماذا يحدث هذا الطوفان اليومي، فيغرق المعذبون و تمتزج أرواحهم بالطين ، و ينجو الأشرار و يحظون بالمباركة ؟ هل تعرف لماذا تنحاز السماء إليهم ؟ “
- “ … فالاديان تأكد ما أقوله على نحو صارخ لا يبقى مجالا للشك. ذلك بأنها تخاطب أجسادنا فقط. تغريها بالخلود. فحينما نموت ، نصبح مضطرين إلى أن نتظر زمنا طويلا حتى تدق الساعة فتبعث الحياة من جديد في أجسادنا. أما ارواحنا التي ستظل هائمة حتى تلك الساعة ، فلا اهمية لها. لو كانت مهمة لارتقت الى السماء فورا و اتخذت شكلا ما ليس بالضرورة أن يكون جسدا، لكن الأمر ليس كذلك ، فالمطلوب هو إحياء جسدي أنا ذاته ، بطوله و عرضة و شكله و مواصفاته جميعها. لأن هذا الجسد ذاته، جسدي الذي يحيا الآن ، هو الذي يرفض الفناء، و هو الذي يريد أن يعيش الى الابد ، و يأكل الى الابد و يمارس الجنس الى الابد. لهذا ، حلم بجنة تمنحه كل ذلك دون حدود، جنة تستجيب لجشعه و توحشة اللذين في وسعه ان يمارسهما دون حرج. فهذا الانفلات مباح في الجنة، لأنه ثواب عن تضحية ما قدمها على الأرض. لقد ضحى الجسد من أجل خلوده هو و ليس من أجل ارتقاء روحه الى جنة غامضة المعالم ليس له فيها وجود ، فتنعم هذه الروح بالحياه و تستلذ بملذات غير ملذاته ، بينما هو يتعفن في الارض …“
- “ أنا علي قناعة بأن الحب ما هو إلا كذبة جميلة يخدعنا بها الوجود كي يحافظ على خلوده. أنت في الحب تتواطأ ضد نفسك مع الطبيعة ، و تساهم في انطلاء المؤامرة عليك كي تنجب طفلا ، يحافظ على استمرار الحياة ، و كي ينجب بدوره أطفالا يحافظون على هذه الحياة “
- “ تعجَّبت لماذا يرتعب هؤلاء الناس من الموت، ويحزنون ويتألَّمون بسببه، كلَّ هذا الحزن والألم الفظيعين، ما دام هو ليس النِّهاية؟ وما دامت هناك حياة أخرى، وليس الموت سوى ممرّ إليها؟ لو كانوا على يقين تامّ بذلك، لما عانوا هذا الحزن كلَّه، ولما كان الموت فجيعة. ولودَّعوا الموتى كما يودّعون المسافرين”
على أن لي بعض المآخذ على الرواية تبدأ بالسلبية المطلقة لبطل الرواية راعي فعلى الرغم من أن السلبية جاءت على سبيل المبالغة من أجل التأكيد على الغربة التي يعيشها المثقف في مجتمعه إلا أنها كانت في بعض الأحيان مثيرة للغضب هذا بالاضافة إلى أنها قد تترجم من البعض أن الثقافة و القراءة و التفكر تنتج شخصيات ممسوخة يائسة من الحياة و المجتمع بدل أن تكون لبنة التغيير و تصحيح المسار إن كان بالامكان إصلاحه. أما المأخذ الثاني فهو عطف على الأول يندرج تحت السوداوية و الكآبة المحيطة بالرواية فلا شيء يبعث الأمل و لا أي مقطع مبهج يعطي القارئ فرصة و لو صغيرة للاتقاط أنفاسه ، ببساطة تتطلب الرواية “ صبر و طولة بال ” من قارئها.
تقع الرواية في ٣١٨ صفحة ، بين يدي طبعة إصدار دار الآداب الطبعة الاولى ٢٠١٨.
القادم رواية الباغ لبشرى خلفان .
تقيمي الشخصي: ٨.٥/١٠
تعليقات
إرسال تعليق