قراءة لرواية “ الرجع البعيد “ لفؤاد التكرلي
انتهيت بالأمس من قراءة رواية من أجمل ما قرأت خلال سنة تقريبا إذا استبعدت نجيب محفوظ بالطبع من أي مقارنة. اخترت هذه الرواية عشوائيا من بين القائمة التي وضعها اتحاد الكتاب العرب لأفضل ١٠٠ رواية عربية وهي بحق رواية تستحق مكانها بين أفضل الكتابات العربية الأدبية على الإطلاق.
إنها بحق دراما إنسانية رائعة تحمل بين طياتها شخصيات عميقة بالغة التعقيد رسمت بحرفية و بإتقان قل نظيره في الأدب العربي ، و رغم أن الرواية تبدو اجتماعية في ظاهرها و تحمل معالجة مباشرة إلا أن التأثير السياسي للانقلاب ١٩٦٣ و التحول السياسي في العراق الذي يحتل مساحة هامشية من متن الرواية قد يكون الغاية الرئيسية منها. في اعتقادي الشخصي أن محور الرواية الرئيسية الى جانب نقد الأفكار الاجتماعية و التناقضات الكبرى للمجتمع العربي هو نقد لصمت و سلبية الطبقة المتوسطة و المتعلمة العربية عموما و العراقية خصوصا عن فترة قاسية شهدها المشرق العربي في سوريا و العراق بسبب سلسلة من الانقلابات دموية أسست للحكومات الدكتاتورية التي سيطرت على مقادير المشرق حتى يومنا هذا.
تدور أحداث الرواية في ربوع بيت عائلة متوسطة ذات إرث عريق في منطقة المحلة ببغداد ، تتكون الأسرة من الأب (أبو مدحت)، وأم مدحت نويه ، و الأبناء مدحت ، كريم ، مديحة وزوجها حسين وبناتها إلى جانب العمه أخت الأب ، و الجدة أم نورية بالإضافة الى البيت الكبير التقليدي الذي يحتل حيز كبير من أحداث الرواية و يمكن القول أنه إحدى شخصيات الرواية. تتمحور أحداث الرواية حول الأبناء مدحت و كريم و علاقتهم بالزائرة الطارئة ابنة خالتهم منيرة و أمها التي تأتي من مدينة بعقوبة حاملة معها سرا فضيعا يتمكن الكاتب من إخفائه عن القارئ بحرفية حتى الربع الأخير من الرواية. تتشابك أحداث الرواية حول الشخصيات الرئيسية الثالثة منيرة و مدحت و كريم لتكون في نهايتها من خلال ما تمر به هذه الشخصيات الصورة المأساوية للعراق الحديث.
رغم تركيز الرواية على الشخصيات الثالثة إلا أنها تقدم صورة ثلاثية الأبعاد وعميقة عن باقي شخصياتها فهي ليست مجرد كركترات سطحية في الباك جراوند للرواية تساعد فقط في تقدم أحداث الرواية ، إنما هي شخصيات مركبة لكل منها لحظاتها المهمة تمكن القارئ من فهمها و تشكيل عاطفة قوية باتجاها. تتعدد الأصوات في الرواية ففي كل فصل تكتب الأحداث من وجهة نظر إحدى شخصيات الرواية فتارة نرى المشاهد تتحرك من وجهة نظر كريم ، وتارة من وجهة نظر مديحة و تارة أخرى من وجهة نظر الطفلة سنا و حتى العمة مدحت لها فصل خاص بها، الأمر الذي يمكن القارئ من تكوين صورة بانورامية لأحداث الرواية و فهم عميق لشخصياتها و اتجاهاتها فما قد يفهمه القارئ من خلال حديث كريم قد يخالف بصورة دراماتيكية ما كانت تقصده منيرة. لكل شخصية لغتها الخاصة فعندما تقرأ فصل العمة مدحت ترى وجهة نظر العجوز التقليدية و عندما تقرا فصول الطفلة سنا تعيش معها براءتها الطفولية و تشاهد أحداث الرواية من منظور طفلة صغيرة.
أخيرا رغم الطابع المأساوي للرواية إلا أن لها لحظات من الفرح و الفكاهة التي تمكن القارئ من التقاط الأنفاس و تمنع عنه الضجر و النفور. شخصيا أنفر من الرواية التي تغلب عليها المأساوية المطلقة لأنه أمر يخالف واقعنا الذي تختلط فيه الأحداث. استطاع التركلي في روايته التي بالطبع لا تحتاج شهادتي هذه خلق عالم درامي جميل و مشوق من خلال الحياة اليومية لعائلة عراقية من الطبقة المتوسطة. وهناك الكثير مما يمكن القول عن هذه الرواية البديعة و لن تكفيها عشرات من المقالات و الكتابات النقدية ، نصيحتي لك من يقرأ هذه الكلمات اذهب و ابحث عن الرواية ان لم تكن تمتلكها لتجعلها في مقدمة ما تقرأه في مقتبل الايام.
تقع الرواية في ٤٧٩ صفحة ، بين يدي طبعة اصدار المدى الطبعة الثالثة ٢٠١٥.
القادم رواية بريد الليل للكاتبة اللبنانية هدى بركات.
تقيمي الشخصي: ٩.٥/١٠
تعليقات
إرسال تعليق