قراءة للمجموعة القصصية “ الجريمة “ لنجيب محفوظ
انتهيت قبل عدة ايام من المجموعة القصصية الثانية التي اقرئها للكاتب المصري الكبير نجيب محفوظ بعد مجموعة القصصية الجميلة “ حكاية بلا بداية و لا نهاية “ ، و هي المجموعة القصصية التي لفت نظري و جذبتني الى فن القصص القصيرة ثم جاءت المجموعات القصصية للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني لثبتت اعجابي بهذا الفن السردي الجميل و الصعب ، اذ ليس من السهولة من وجهة نظري الصغيرة حصر كل تلك الافكار الفلسفية و السياسية و النقدية و الانسانية التي تقدمها هذه القصص في تلك المقاطع البسيطة و الخروج مع ذلك بقصة جذابة ممتعة قريبة الى قلب و عقل قارئها.
يقدم نجيب محفوظ في هذه المجموعة القصصية التي نشرت في طبعتها الاولى سنة ١٩٧٣م ثمان قصص تتروح احجامها بين العشر و الثلاثين صفحة و تتنوع مواضيعها فتشمل القضايا البولسية كالقصة الاولى المعنونة “تحقيق “ و قضايا التناقضات الاجتماعيه و النقد السياسي كالقصص المعنونة ب “ الطبول “ ، “ العريس “ ، “ المقابلة السامية “ ، “ الجريمة “ و “اهلا” بالاضافة الى قصة جميلة تحمل العنوان “ الحجرة ١٢ “ تتنتمي الى المبالغة و اللامعقول و تطرح علاقة الانسان و ارتباطه بالطبيعة حوله الا ان الجامع الرئيسي بين كل القصص الثماني هو الاسلوب القصصي الساخر و الممتع و الجميل بالاضافة الى النقد السياسي و الاجتماعي اللاذع.
تحفل المجموعة في معظمها بتقيم ناقد و ساخر لحال المواطن المصري كفرد و التغيرات التي حفل بها المجتمع المصري و الدولة المصرية اجمالا بعد ثورة عام ١٩٥٢ ، ففي قصة “ العريس “ مثلا يقرر بطل القصة التخلي اخيرا عن حياة العزوبية ليواجه عند تقدمه لاحدى الفتيات بالتغيرات القيمية في المجتمع الصغير الذي يعيش فيه و الذي يقدمه لنا نجيب محفوظ باسلوب ساخر حين يأتي وسيط الخطوبة للمتقدم ليسأله عن بعض تفاصيل ماضية الاتي آثرت حفيظة والد خطيبتة ، و كان شاب يعود الى نفسه بعد الحوارات الممتعه مع الوسيط حين يحاول الدفاع عن نفسه و عن ماضية للتفكير في تعقيدات الزواج و هوس التحقيق و التنقضات الصارخة و التغيرات التي حدثت خلال العشرين سنة الماضية”
“ و فكرت ايضا فيما كان يأخذ على في الماضي من عدم الانتماء لحزب من الأحزاب ، و ما رميت به بسبب ذلك من تهم البلادة و قلة التربية الوطنية و غلبة العبث و التفاهة و الانانية و كيف انقلب ذلك قوة تزكيني في غمار التحريات التي تنهال علي منقبة المستور من خطاياي! “
و في مقطع آخر يقع هذا التحاور الجميل
“ - و الخمر ؟
- اسمع و صدقني ، دائما كنت و مازلت معتدلا لم أفقد وعي الا مرة واحدة
- آل ميري لا يخافون الشراب بقدر ما يخافون عواقبة
- لم تكن ثمة عواقب وخيمة
- عابد ميري نفسه يشرب ، و هو يغني اذا شرب ، و لكن قيل له إنك طولت لسانك مرة على الاستبداد و انت فاقد الوعي!
- قلت لك إنني لم افقد الوعي إلا مرة واحدة
- ربما وقع ذلك في تلك المرة ، و عابد ميري يخاف ان يتكرر ذلك بعد ان تكون قد صرت زوجا و ابا ؟
- لا اساس لخوفة صدقني ، ثم لماذا تذكر تلك الزلة و تنسى مجاملاتي الطويلة للاستبداد و أنا في تمام وعي ؟! “
تحفل المجموعة في كل قصصها تقريبا بمثل هذه الحوارات الممتعة المفعمة بالنقد و السخرية.
تتميز المجموعة بكل قصصها تقريبا الا انها هناك قصتين كانت بالنسبة لي الهاي لايت “ the highlight “ و هما قصتا “الجريمة” التي تحمل المجموعة عنوانها و قصة “ الحجرة رقم ١٢. في قصة الحجرة رقم ١٢ ، القصة الثانية في المجموعة ، يخرج نجيب محفوظ عن واقعيته التي ألفتها الى شيء من المبالغة و اللامعقول في استكشاف لاثر الطبيعة و تغيراتها على التجربة و ردود الفعل الانسانية لمدير فندق حائر يواجهة باللامعقول و المجهول في اثناء زيارة امرأة غريبة لفندقة و التي تتزامن ايضا مع عاصفة قوية تضرب الفندق و ما حوله .
اما في قصة الجريمة فيقدم نجيب محفوظ نقد لاذعا للانظمة و الشعوب العربية على حد سواء حيث يعتبرها نجيب محفوظ شريكا في صناعة الدولة العربية الحديثة التي تقدم الأمن و الاستقرار الوهمي على قيم الحرية و الديموقراطية و العدالة الاجتماعية. تدور احداث القصة حول محقق يعود متخفيا كسائق تاكسي الى حيه القديم للاستكشاف جريمة قتل غريبة وقعت قبل خمس او اربع سنوات الا انه يواجه بغرابة القضية و تواطئ جميع اهالي الحي من اغنياء و فقراء و رجال امن في التستر على ملابستها. تحفل القصة كباقي المجموعة بالكثير من الحوارات الذكية ذات الطابع النقدي الساخر الي ان هناك محاوره تحدث بين المحقق المتخفي الذي يهرب من الحي خوفا على حياته و مسؤول الامن الرسمي في الحي، يلخص من خلالها نجيب محفوظ الواقع العربي المعاصر و نتائجة التي نعيشها الآن
“ وفي صحن المحطة شعرت بيد توضع على كتفي فالتفت متوثبا فرأيت الضابط. واقفنا نترامق مليا حتى ابتسم قائلا:
- جئت اودعك بما تقضى بة اصول الزمالة.
- شكرا
- و لم تترك التاكسي وراءك بلا سائق
- اتركه في ايد امينة
- ترى ما الملاحظات التي تمضى بها ؟
- إنكم لا تؤدون واجبكم !
- الناس لا يتكلمون
- اعلم ان ارزاق البعض بيد البعض الاخر و لكن الغضب يتجمع في الاعماق و للصبر حدود
- ما واجبنا في رأيك ؟
- أن تحققوا العدالة
- كلا
- كلا ؟!
- واجبنا هو المحافظة على الامن
- و هل يحفظ الامن بإهدار العدالة؟
- و ربما بإهدار جميع القيم !
- تفكيرك هو اللعنة
- هل تخيلت ما يمكن ان يقع لو حققنا العدالة؟
- سيقع عاجلا أو آجلا
- فكر طويلا بلا مثالية كاذبة ، قبل ان تكتب تقريرك ، ماذا ستكتب ؟
فقلت بامتعاض: سأكتب ان جميع القيم مهدرة و لكن الأمن مستتب ! “
المجموعة القصصية بطبعتها الجديدة نشرت عن دار الشروق ضمن مشروهم لإعادة نشر أعمال نجيب محفوظ ، الطبعة الاولى منشورة ١٩٧٣ ، و الطبعة الاولى لدار الشروق منشورة ٢٠٠٦ ، بين يدي الطبعة الرابعة ٢٠١٥م. تقع الرواية ١١٨ صفحة.
تقيمي الشخصي: ١٠/٩.٥
حمود السعدي
للمزيد ارجو فتح حساب الأنستجرام: hamoodalsaadi
تعليقات
إرسال تعليق