قراءة لرواية حديث الصباح والمساء لنجيب محفوظ




لعل كلامي خلال السنين الماضية حول نجيب محفوظ قد صار مكررا للمتابعين القلائل الذي يقرؤون ما أكتب هنا، إلا أنها الحقيقة التي لا جدال فيها من وجهة نظري، وهي أنه ليس هناك كاتب في العالم العربي يكتب بالتنوع والروعة التي يكتب بها نجيب محفوظ فحتى في رواية حديث الصباح والمساء والتي كتبها الكاتب في نهاية مشواره الأدبي ما زال هذا الأديب العظيم يجد مساحة جديدة للتجربة والتنوع، ومازال يفاجئ قارئه سواء من الناحية الفنية في الطريقة السردية أو من الناحية الموضوعية في الطرح والفكرة. 

 

يخوض نجيب محفوظ في رواية الصباح والمساء تجربة سردية تجديدية يخرج فيها بروايته من القوالب المعروفة للسرد في العالم العربي ويقدم للكتاب والقراء العرب نموذجا للمغامرة الناجحة في التجريب كانت غاية في النجاح، قائمة بصورة أساسية على ثقة نجيب محفوظ في قارئه العربي وقدرته علي استيعاب فلسفته وابداعه وأسلوبه، ولكنها ومع ذلك وعلى خلاف تجارب بعض الكتاب العرب ليست عملية قائمة على تحدي أو تتويه القارئ أو النظر إليه نظرة استعلائية من الأبراج العالية، فالرواية تنطلق من تجربة غنية لكاتب استطاع على الدوام أن يستوعب قراءه، وتمكن من أخذه بسلاسة وبساطة في تجارب إنسانية وفلسفية وفكرية غاية في التعقيد والأهمية.  

 

يجمع نجيب محفوظ في روايته خلاصة تجاربه الأدبية من الواقعية الاجتماعية لروايات الأربعينيات والخمسينيات كالثلاثية، و بداية ونهاية، وخان الخليل إلى الروايات الغارقة في الرمز والفلسفة في تجارب الستينيات كاللص والكلاب، والسمان والخريف، إلى الملاحم الفنتازية الكبرى كأولاد حارتنا، والحرافيش، حيث جاءت روايته الرائعة حديث الصباح والمساء مزيجا رائعا للملحمي الفلسفي الغارق في الواقعية قدم فيه نجيب محفوظ حكاية مصر الحديث من خلال قصص ومصائر ست أجيال من ثلاث عوائل جمعت بينها المصاهرة منذ غزو نابليون لمصر حتى ثمانينيات القرن الماضي مارا بثلاث ثورات رئيسية عرابي و١٩١٩ و١٩٥٢، بالإضافة إلى عدد لا يحصى من الأزمات والتحولات من الاستعمار والملكية إلى الثورية الاشتراكية وأخيرا الدكتاتورية والانفتاح. 

 

من خلال ٧٢ فصلا عنْوَن نجيب محفوظ كلا منها باسم شخصية من شخصيات العائلات الثلاث ، يروي نجيب محفظ بصورة مقتضبة حكاية تلك الشخصيات منذ الولادة حتى الموت، غير أن نجيب محفوظ لا يرتب فصوله حسب الترتيب الزمني  لشخصياته تصاعديا أو تنازليا، بل يقوم بترتيبها ترتيبا أبجديا بغض النظر عن الزمان والمكان التي عاشت فيه تلك الشخصية حيث يبدأ في الفصل الأول بقصة أحد أفراد الجيل الخامس، وينهيها في الختام بحكاية الجد الأكبر للعائلة وأول الوافدين إلى القاهرة قبيل الغزو الفرنسي لمصر، مقدما بذلك للقارئ حكاية مشوقة هي أقرب إلى أحجية تكوين الصور المقطعة (Jigsaw puzzle) فخلال كل فصل يقدم نجيب محفوظ لقارئه قطعة من قطع اللغز التي تساعده في تكوين الصورة كاملة ليجد نفسه  أي القارئ  في الختام أمام صورة بانوراميه لقصة مصر الحديثة. 

 

وقد يقول قائل كيف لنا أن نجمع ٧٢ شخصية في رواية قصيرة لا تتجاوز صفحاتها ٢٤٠ صفحة؟ ألن يكون هذا متوها للقارئ؟ ألن يحرمنا هذا من استيعاب حركة الشخصيات والتماهي معها وفهمها؟ إلا أن ما قد يغفله البعض أن الرواية لا تحكي عن تطور الشخصيات بعينها، الرواية تحكي قصة حركة التغير في مصر وشعبها بل والعالم العربي أجمع في العصر الحديث فالشخصية الرئيسية فيها ليست عائلة يزيد المصري وجليلة وداود بل هي مصر الحديثة وشعبها بمختلف محاوره وأطيافه: الفلاح والباشا والملكي والوفدي والشيوعي والأخواني والناصري الاشتراكي والانفتاحي الرأس مالي. 

 

الرواية بطبعتها الجديدة نشرت عن دار الشروق ضمن مشروعهم لإعادة نشر أعمال نجيب محفوظ، الطبعة الأولى منشورة ١٩٨٧، والطبعة الأولى لدار الشروق منشورة ٢٠٠٦، بين يدي الطبعة الثامنة لدار الشروق ٢٠٢٠م. تقع الرواية في ٢٣٦ صفحة. 

 

تقيمي الشخصي: ٩.٥ /١٠

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة لرواية خان الخليلي لنجيب محفوظ

قراءة للمجموعة القصصية أكابر لميخائيل نعيمة

قراءة لمسرحية "السلطان الحائر" لتوفيق الحكيم